بقلم الأستاذ حديبي المدني
عبودية المراغمة وفن المغايظة(1): حيا الله أبطال الجزائر ورجالها وشجعانها الذين سطروا ملحمة بطولية خالدة مضرجة بالدماء..و أعادوا صياغة تاريخ البطولة والتضحية والفداء..وأتقنوا عبودية المراغمة، وأبدعوا فنونا جديدة للمغايظة ..وكسروا حاجز الخوف ..وحاصروا إسرائيل في الزاوية الضيقة..ورفعوا رؤوسنا عالية شامخة سامقة..ونالوا أجر الشهادة ووسام الجهاد والشرف والقبول الرباني..فأكرم بهم..أكرم بهم..أكرم بهم..!
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ… : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ "البَشَر؟"
"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ... وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ ...وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ... وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
أمة ولود ودود:إن الجزائر الحبيبة التي أنجبت:الأمير عبدالقادر والمقراني وبوعمامة...والشيخ عبدالحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ..ومصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي وأحمد زبانا وبوصوف..لم تصب بالعقم..بل هي ودود ولود..تلد الزعماء والقادة والفرسان الذين يصنعون الحياة والتاريخ والأحداث..من أهل العزة والكبرياء والشموخ والجرأة والاقتحام..!
وقل الجزائر وأصغى إن ذكر اسمها... تجد الجبابرة ساجدين وركعا
..وحركة واعية..قادتها وصفها الأول ..في لهيب المعركة:..ليس غريبا على حركة مجتمع السلم -بقامتها الفارهة وتاريخها الناصع وتربيتها العميقة وسندها الذهبي العالي المتصل وفكرها الوسطي المعتدل وفرسانها الشجعان ووفائها النادر العجيب وتضحيتها الفذة الفريدة وحبها الصادق العميق لفلسطين والأقصى-أن تقدم أعز ما عندها من رموز ورجال وفرسان ومال..لفك الحصار على غزة العزة..ووفاء وحبا وفداء ...ومراغمة ومغايظة لليهود الغاصبين.. ذلك أن أبناءها رضعوا حب أرض الرباط على يد الشيخ المؤسس محفوظ نحناح الذي كان مولعا ومتيما وعاشقا لفلسطين ولا يخلو مجلس من مجالسه من ذكر حبيبته ومعشوقته..وعندما زار الشيخ المحب لبنان أبى إلا أن يتوجه إلى الشريط الحدودي مع فلسطين أين ادخل قدمه من خلف الشباك الشائك رمزية للتمسك بالأرض المقدسة:
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها... تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال ترابٌ من غبار نعالها ** ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها
عهد أبدي:وتعاهد جندها وقادتها، بأن يعتبروا قضية المسجد الأقصى والقدس وكل فلسطين هي القضية الأولى رغم كل محاولات طمس هويتها، وأن يوصوا بذلك أبناءهم وأن يورّثوها لأحفادهم وإلى كل الأجيال القادمة.
لقد غايظ أبطالنا وأسودنا اليهود وراغموهم وحلقوا بعيدا في سماء الهمة العالية والشجاعة النادرة والاقتحام الواعي..وجسدوا كلمات ابن القيم في مدارجه وحولوها إلى واقع حي متحرك:
عبودية المراغمة: (وهي تسمى: عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له)
قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، وقال تعالى في مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه: (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- للمصلى إذا سها في صلاته سجدتين وقال: إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان، وفي رواية: ترغيما للشيطان، وسماهما: المرغمتين. فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين)..
أنيروا العقول بلهب العواطف:يقول صاحب المسار:إن الفقهاء والمفكرين كثير عددهم، ولكن قضية الإسلام الحاضرة تريد أصحاب القلوب الملذوعة، الذين يتفاعلون مع الأحداث أولا بأول، ولهم تعبد في المراغمة والمغايظة ..، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات المرفوعة.
وذلك يعطي لمنهج الدعوة سمتا خاصا في تجاوز مجرد الدراسات الفقهية والتوجيه الفكري القريب من طبيعة المنطق الجامد، إلى مخاطبات قلبية، تسبقه، وتقارنه وتتلوه، تغذي الأرواح، وتنمي الأشواق، وتحبب البذل،... وهو نموذج ناقص، كأن الدعوة الإسلامية المعاصرة قد كررته فغزارة الإنتاج الفكري عندها لم يبلغها حزب آخر، حتى لتئن الرفوف وتتقوس هابطة، لتكسر غمدًا فارغًا يتخذه الدعاة عمادًا لها تحتها، يضحك الرائي له ضحك الرافعي لما هزته خدعة سيوف الخشب في الأيدي المتوضئة.
لقد رفع أبطالنا وشجعاننا شعارا عمليا للمراغمة من أول يوم:الكسر أو الأسر أو الاستشهاد:
وجسدوا كلمات ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي..؟!:.. أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت.. فهي معي لا تفارقني , أنا حبسي خلوة , وقتلي شهادة , وإخراجي من بلدي سياحة..المسجون من سجن قلبه عن الله ..والمأسور من قيدته ذنوبه وخطاياه.. .
..بل كتبوا وصيتهم وقسموا تركتهم وودعوا أهلهم وهم يرددون قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
ويترنمون بهذه الأبيات:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن قبري بطــن نسر مقيلـه بجو السماء، في نسور عواكـــف
وأمسى شهيدًا ثاويا في عصابـة يصابون في فج من الأرض خائـف
فوارس من بغداد ألف بينهـــم تقى الله، نزالون، عند التزاحـــف
إذا فارقوا دنياهم فارقـوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
وبذلك يبتكر داعية اليوم في المراغمة ابتكارا، إذ ليست تنقطع فنونها: أنه لا يحلق بروحه سامية في فلك الشموخ فحسب، بل ببدنه أيضًا، أنهم لن يصلوا إليه، بل في بطون النسور، فيراغمهم ميتا، كما راغمهم حيا.
فلا نامت أعين الجبناء: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقه في اليم ولا تخافي ولا تحزني..إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين..
فالأعمار بيد الله..فالدعوة والمقاومة لا تنقص رزقا ولا عمرا..بل تحفظ الحركة وتمنحها القوة والبركة..
..من الأمثلة الحية للمراغمة في سفينة الحرية:
على السفود: بطلة من بطلات الجزائر..وحرة من حرائرها.. أثناء اعتقالها واستنطاقها ..شوت اليهود على السفود بالشاوية وتحدتهم وغايظتهم..؟!
..وفارس تركي لا يملك سلاحا ..يرعب جنديا إسرائيليا ويجعله يرتجف خوفا وجبنا بنظرات عينيه..؟!
سنعود مرة ثانية وثالثة..هذا شعار كل المشاركين في قافلة الحرية بعد المجزرة..فلا خوف ولا تردد..بل تحدي ومراغمة؟!..
..يتبع...