انطلاق الفعل الثوري
بدأت
شرارة الفعل الثورى الجزائرى يوم 1 نوفمبر.. واستمرت لسنوات، والتفاصيل فى
ذلك كثيرة والمخططات كانت تتم فى مصر برؤية أن تحرير واستقلال أى قطر عربى
هو تأكيد لاستقلال مصر.. وأن أمن مصر يبدأ من المحيط والخليج.. تلك الرؤية
التى غيرت مجرى الوطن العربى ورفعت أعلامه خفاقة فى الخمسينيات والستينيات
من القرن الماضى.. ومنذ أن فرطنا فيها أطل الاستعمار برأسه من جديد..
وينظر أحمد بن بيلا الى هذه المرحلة المشرقة فى التاريخ العربى وبعد كل
هذه السنوات بنظرة جامعة ملخصها ببساطة أن جيله فتح الباب... يقول: نحن
فتحنا الباب وأخذنا الاستقلال.. أعدنا الأرض.. رفعنا الأعلام العربية..
رغم التراكمات التى تكونت طوال سنين طويلة.. لكن ظل السؤال الأساسى.. كيف
نترجم هذا الخروج فى بناء؟.. كيف نبنى مجتمعاتنا من جديد.. ربما لم نتوجه
بما فيه الكفاية لهذه المرحلة، وفى رأيى أن كل مرحلة لها رجالها الذين
يصنعونها.. كان المطلوب كيف نبنى بثقافتنا وليس بثقافة أخرى.. وأسأله: هل
هذا
نوع من النقد الذاتى لكم؟.. فيجيب: نعم.. نعم.. نعم.. نقلنى هذا
النقدالموجز الى طرح السؤال الموجع عن أسباب تراجع وانحسار وهزيمة مشروع
الاستقلال الوطنى الذى ناضل هو من أجله وعبدالناصر الذى أحبه وجعل منه
رمزه الأول، وآخرين فى عالمنا العربى من محيطه الى خليجه.. فأجاب: النظام
العالمى لابد أن نجعله ميدان البحث الرئيسى فى هذا الأمر.. مثلا أنا وأخى
جمال لم نستطع التحكم فى عملية تحديد سعر البيع والشراء مع الغرب.. هو
الذى يحدد السعر فى الحالتين.. بمعنى أنهم هم الذين يقررون أن يبقوا فوق
ونحن تحت!.. لم يوافقنى بن بيلا على قولى له: ألا يعد هذا إلقاء مسئولية
على الآخرين؟.. لا.. لا.. يا أخى سعيد.. وآخر صور الاستعمار نراها الآن..
هم يرفضون العيش معنا فى وقت نريد العيش معهم.. كانت هناك محاولات لكسر
حدة وظلم هذا النظام فى محاولة أخى جمال فى تجربة عدم الانحياز.. مازال
الاستعمار موجودا فى نظام دولى ليس لصالح الإنسانية، وإنما لصالح جبهة هى
الغرب.. الغرب الذى لا يريد الصالح للجنوب.
كاريزما وإلهام
سألنى
أحمد بن بيلا عن عمرى.. وعن منابع معرفتى.. كان حميميا حنونا الى أبعد حد،
فالتقطت سؤاله والحالة التى فيها لأسأله.. سيادة الرئيس: كانت المقاومة
والتضحية بالدماء من أجل الاستقلال هى مصدر إلهام لأجيالكم التى اكتوت
بنار الاستعمار، فما الشيء الذى تراه ملهما للأجيال الجديدة؟.. يهز الرجل
رأسه قبل أن يقول: الاستعمار يعود من جديد.. لكن أرى مصادر الالهام
للأجيال الجديدة فى العلم والمعرفة.. لابد أن يكون هناك إنسان عربى جديد..
إنسان
يتعلم ويعرف ويحمى مصالحه بأسلوب علمى، ويعرف من سبقوه من الذين صنعوا
نهضة هذه الأمة فى يوم ما.. ويفهم أن العلم ليس محايدا، بمعنى أنه فى
الغرب يحافظ على مصالحه.. وأجدد لك المثل فى أننى وأخى جمال وأنا، لم
نستطع تحديد السعر بإرادتنا فى عملية بيع أى منتج من عندنا للغرب، أو شراء
أى منتج منه.. هم الذين كانوا يحددون السعر، كان هذا رغم مقاومتنا ورفضنا
لسياسات الغرب.. فما بالك الآن والغرب يؤكد سياسته الاستعمارية ولا يتنازل
عنها..
فكيف نتسلح الآن بالعلم والمعرفة لمواجهة مثل هذه السياسات.. وصدقنى لو
امتلكنا ذلك ما جاءت أمريكا الى العراق بكذبها المفضوح عن تطبيق
الديمقراطية التى سقطت فى جوانتانامو، وسجن أبوغريب.
التقطت
رؤية بن بيلا حول العلم والمعرفة كمصادر إلهام للأجيال الجديدة، وأستأذنه
فى تقديم تفسير لظاهرة الكاريزما لزعماء مرحلة ما بعد الحرب العالمية
الثانية.. مثل جمال عبدالناصر.. وهو.. هل هى تعود الى الظرف التاريخى؟..
فيقول: نعم تعود الى الظرف التاريخى.. الإسلام كل مائة سنة يأتى من يجدد
شبابه.. وبصورة أوضح.. جاء رجال فهموا هذا الظرف ومتطلباته التى هى
متطلبات الوطن، فمنحتهم الجماهير الحب والتقدير والولاء.. لكن فى رأيى أن
المهمة انتهت لهذه الكاريزمات.. فأنت تعيش الآن على أرضك وتتولى سيادتها
عكس ما كان.. كانت شروط الظرف التاريخى لجيلنا مختلفة حيث سيطرة الاستعمار
على أرضنا، ونهبه لثرواتها.. والقائد الذى يأتى ليقود النضال ضد هذا،
ستمنحه الجماهير التفويض، وستقف وراءه.. لا مجال الآن لوجود كاريزما
مماثلة لأن الشروط مختلفة.. والبديل فى قوى شعبية فهى المنوط بها الآن
القيام بدور الرافع والداعم لمتطلبات الاستقلال والمصلحة، ونحن نحاول فى
هذا على صعيد مقاومة ظلم النظام العالمى الجديد.
يرى
بن بيلا أنه رغم محاولاتهم فى الماضى وثوراتهم ضد الاستعمار إلا أن ظلم
النظام العالمى كان، ولا يزال لكنه الآن وصل الى ذروته، وأن ما حدث للعراق
هو دليل قطاع على ذلك الذى هو دليل أيضا على الحرب ضد الحضارة العربية
الإسلامية بكل معطياتها: أنظر الى الخريطة يا أخى، ستجد المكان الذى فيه
بترول فيه إسلام، كرمنا الله به، ولكن هما لازم يتفاوضوا عليه.. أصبحنا فى
حالة من الحملة الصليبية الجديدة!.. أقول له: هل هى صليبية بالفعل؟.. يرد:
صليبية.. صليبية.. هل المشروع الأمريكى سيهزم فى العراق؟.. يرد: الأمريكان
فى مستنقع.. ووفقا لما أسمعه من الداخل العراقى، فإن المقاومة تشن ما يقرب
من 200 عملية فى اليوم الواحد.. وهذا ما جعل الأرض العراقية جهنم
للأمريكان.. جنود يهربون فى الصحراء، وجنود ينتحرون.. والمقاومة فى
التحليل السياسى العام لا تحارب لتحرير العراق فقط، وإنما هى عطلت العدوان
المتوقع على سوريا، وضرب إيران، والسودان، كما أنها هزمت الذين توهموا أن
العراق سيدخل حربا طائفية فالطائفية ليست وليدة اليوم هى فى المنطقة
العربية منذ 14 قرنا، وفى كل الأزمات تعايشت الطوائف، والعراق من أهم دول
المنطقة فى ذلك.. أنا مطمئن على الحالة العراقية من هذه الناحية.
صفة شخصية
قل..قل
يا أخى.. انتظر أى سؤال.. هكذا.. قاطعنى بن بيلا ضاحكا، وأنا أستأذنه فى
نقل الحديث الى صفة شخصية: سيادة الرئيس من يتتبع سيرتك يلمس فيها التجدد
بتألق حتى ولو كان تحولا يرد: أخى أنا لم أتحرك خارج إطارى العربى
والإسلامى، وكإنسان لا أتعصب فى رؤيتى ومنفتح على الآخرين، وتجربتى
الشخصية فى هذا ثرية.. فأنا قرأت الكثير فى فترة السجن، وبعد خروجى منه،
وكما قلت كان هذا يتم فى إطارى العربى الإسلامى.. لم أكن فى يوم من الأيام
ماركسيا على الرغم من مد هذا الاتجاه فى الخمسينيات والستينيات.
* كنت حاكما.. على طول الخط مناضلا. فأى الألقاب تحب؟
- أنا مناضل.. أحب هذا اللقب.. أعاون بلادى.. وأبحث مصلحة شعبى.
* انتقلت من مسئولية الحكم الى ظلام السجن.. فكيف تنظر الى هذه التجربة؟
-
لا أنظر الى تجربة السجن من جانبها المر.. لا ابغض أحدا.. وعلى الدوام أرى
شعبى ماذا يريد.. قلت قبل ذلك أنا ناضلت والعصمة لله، وعملت لبلدى، وإذا
كنت أخطأت فقد سجنت 24 عاما، وإذا كان هم أخطأوا فى حقى فليسامحهم الله.
* من تحمل معك معاناة السجن؟
- أمى الكريمة رحمها الله، وأخواتى الذين توفاهم الله، وزوجتى زهرة التى شاركتنى أتعس لحظاتى، وتحملت حياتى التى حبانا الله بها.
تنقلت
لزوم التصوير فى أرجاء الحجرة معه ممسكا بيدى فى حنان أبوى بالغ.. وقفت
الى جواره وهو يطل من البلكونة بتأمل عميق الى النيل.. كانت مياهه تعكس
شمس الأصيل وأشعتها تلامس وجهه الباسم على الدوام.. حفزتنى هذه الحالة الى
الرغبة فى طرح عشرات الأسئلة الأخرى، لكنه كان على موعد آخر ومع ذلك
سألته: ماذا تشعر وأنت تسير فى شوارع القاهرة؟
أجاب:
أسير
على أرضى.. وفى بلدى، وأتمنى أن أتحدث مع كل ما يقابلنى.. أشرح له قصة مصر
مع ثورة الجزائر.. أقول مصر فى قلبى.. ناصر فى قلبى ولولا مصر لما كانت
ثورة الجزائر، وثورات أخرى، مصر كانت كل شيئ.. اليوم الذى جئت فيه القاهرة
لم يكن معى شيء.. ووقفت أمام قدرة الفول.. وأطعمتنى.. وأخذنا السلاح
والطعام والمال لنحرر بلادنا.. أتمنى لو أتم أيامى فى هذا البلد.. والله
هذه أمنية أدعو الله أن يلبيها.
وكما بدأ معى هذا الحديث بالكلام عن جمال عبدالناصر، جاء الختام أيضا:
جمال
عبدالناصر ظاهرة مضيئة لكل الشعوب العربية والإسلامية، وشعوب العالم
الثالث.. هو إنسان ليس معصوما من الخطأ، لكنه ظاهرة نظيفة ومضيئة فى
مجملها.. لن تنساه أبدا هذه الشعوب عامة، والشعب الجزائرى خاصة.
سعيد الشحات - العربي"