وهذه اضافة من موقع التيسير ليس لدكتور البوطي :
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اطلعت على الحوار الدائر على صفحات الرسالة حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي افتتحه الدكتور عبد العزيز قاسم في ملحق الرسالة بتاريخ 18 ربيع الأول 1428هـ . وأود بداية أن أسجل شكري وتقديري للأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز قاسم على طرحه للموضوع وعلى منحاه الواقعي المتوازن في نقاشه للمسألة .
وقبل مناقشة المسألة وبيان وجهة نظري , أذكر ببعض الشبهات أو الاعتراضات التي لا يفتأ إخواننا في المدرسة السلفية يرددونها في كل مناسبة أومن غير مناسبة:
ـ ثبوت مولده صلى الله عليه وسلم
ـ الدليل الشرعي على الاحتفال
ـ اعتبار المولد بدعة
ـ الفرح بالمبعث والإسلام وليس بالمولد
ـ يوم المولد يوم الوفاة ـ ليس الفرح أولى من الحزن
ـ الكثرة ليست دليلا شرعيا
ـ لم لا تقرأ السيرة كل يوم أو كل أسبوع
ـ التشبه بالنصارى
ـ الجهل والتعصب وحب اللهو
ـ اتهام الصحاية بعدم فهم مقاصد الشرع
ـ تحويل القضية إلى قضية شرعية
ربما يحتاج نقاش هذه المسائل وغيرها إلى مجلد أو أكثر لكنني , سأشير أشارة مختصرة معززا كلامي بأقوال أهل العلم , ومن بينهم من لا يتهم على " سلفيته " بل قد يعد من أئمة السلفية :
أولا : ثبوت تاريخ مولده : اختلف أهل السير في تحديد اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم فذكروا : 12 أو 8 أو 9 , لكن الذي عليه ابن هشام وهو العمدة في كتب السيرة أن يوم المولد كان 12 ربيع , لكني لا أرى حقيقة أي نقطة تسجل لمن يريد أن يشكك في يوم المولد إذ أن العبرة في الأعمال بالنية والمقصد فالذين يحتفون بالذكرى إنما يقصدون يوم مولده في نفس الأمر سواء كان يوم الثاني عشر أو غيره , ثم إن النتيجة هي ذاتها فإن احتفلوا يوم 12 فهم أهل بدعة وإن أحيوا يوم التاسع هم كذلك أهل بدعة فما هي الثمرة من هذا الاتهام, ومفهوم المخالفة هنا يقتضي أنه إن ثبت يوم المولد واتفق عليه فإن الخلاف سيرفع , لكن الأمر ليس كذلك فما الفائدة من هذا الأمر؟
ثم إنني أتعجب أيضا من بعض إخوتنا عندما يدللون بالاختلاف في تاريخ المولد كما رأيت في إحدى المطويات على عدم اهتمام الصحابة بهذه المناسبة وبهذا التاريخ , وأذكر هنا من يقول بهذا القول بمسألة واحدة تتعلق بالصلاة وهي أعظم شعائر الإسلام , فهل يعرف الإخوة الأفاضل كم قولا ورد في المقصود بالصلاة الوسطى ؟ يمكن مراجعة كتب الفقه لنرى " عدم اهتمام " الصحابة بالصلاة !, إن سرنا على القاعدة أعلاه .
ثانيا: تحويل القضية إلى شرعية :
جزم إخوتنا في المدرسة السلفية أن الاحتفال بالمولد قضية شرعية وحكموا بأنها عبادة ولذلك ناقشوا أدلتها الشرعية لكن ماذا يقول الذين يحتفلون بالمولد ؟
يقول السيد محمد علوي المالكي في تحديده لمفهوم المولد : " إننا نرى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لابد من الالتزام أو إلزام الناس بها , بل إن كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم يحصل به تحقيق المقصود من المولد الشريف ."
( حول الاحتفال بذكرى المولد ص : 40 )
ويتساءل السيد علوي في موقع آخر من كتابه : " ومن الذي ادعى أن عمل المولد من الكيفيات التعبدية المنصوص عليها بعينها ؟ ويجيب محمد علوي بقوله : فهذا الادعاء أكذب من الكذب وأبطل من الباطل " .
هذا كلام رمز من رموز المدرسة التي تعتني بذكرى المولد ينفي بل يفند أن تكون هذه المناسبة من أعياد الإسلام واعتبر ذلك كذبا . .فلماذا الإصرار على اعتبار المسألة عبادة وعدها ابتداعا لا دليل عليه ؟
ثالثا:الأدلة الشرعية :
يصر الفريق المخالف على أن الاحتفال بالمولد بدعة لا دليل شرعي عليه وهذه مسألة مرتبطة بما قبلها , فما دام الأمر ليس عبادة فما الحاجة للبحث في الأدلة الشرعية , ثم إن المحتفلين عندما يأتون بأدلة إنما يسوقونها للدلالة على جواز الاحتفال ,وليس لإثبات أنها عبادة منصوص عليها.
رابعا :بدعية المولد :
يصر أهل المدرسة السلفية على أن المولد بدعة , ويستشهدون بالحديث " كل بدعة ضلالة" " فيعتبرون كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة هكذا على وجه الإطلاق .
لكن ما هي البدعة ؟ البدعة هي ما أحدث على غير مثال سابق , روى البيهقي عن الشافعي قال : "المحدثات من الأمور ضربان :
أحدهما : ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة .
والثاني : ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد وهذه محدثة غير مذمومة "..
لو أن هذا الكلام نسب إلى متأخري مدرسة المولد لتم اتهامهم دون تردد أنهم أتوا بما لا دليل عليه و لم يقله أهل القرون المفضلة . لكن الكلام كلام الشافعي وهو بالتأكيد من أهل القرون المفضلة ( ت 204 هـ ) , فهل يمكن أن نتهم الشافعي بأنه لا يفهم اللغة العربية أولا يفهم الحديث . . وهو يعد أحد أذكياء الدنيا . .
وهاكم أيضا كلام أحد أعلام الأمة ممن يصنف أنه من المدرسة السلفية إنه ابن رجب الحنبلي ,
يقول ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم " في تعليقه على حديث" كل بدعة ضلالة " : فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل في الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة و الباطنة . (جامع العلوم ص501)
بل إن ابن رجب يذكر صراحة أن البدعة قد تكون حسنة : " وكثير من الأمور التي حدثت ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة , ترجع إلى السنة أم لا ؟ فمنها كتابة الحديث , نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ورخص فيه الأكثرون " .
(جامع العلوم ص : 504 )
وها هو الحافظ السيوطي يبني موقفه من المولد على أساس رأي الشافعي :
يقول السيوطي :" وعمل المولد ليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي " .
بل إن الحافظ السيوطي حدد موقفه من المولد مع وعيه الكامل أن المسألة لم تحصل في القرون المفضلة .
يقول السيوطي : " وهو ـ المولد ـ من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول , فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان , فهو إذن من البدع المندوبة كما عبر بذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام . . "
مواقف معاصرة :
أغلبية المسلمين يحيون هذه الذكرى بغض النظر عن الاختلاف في طبيعة الاحتفال , وأبرز علماء المسلمين اليوم يفتون بجواز الاحتفال بالمولد .
يقول الشيخ عبد الله بن بيه :
هذه المَسألةُ ـ عِيدُ المَولِدِ النَّبَوِيِّ ـ مَسأَلَةٌ اختَلَفَ العُلَماءُ فِيها. فَمِن قائلٍ بأَنَّها بِدعَةٌ مَكرُوهَةٌ حَتَّى وصل البَعضُ إلى التَّحرِيمِ. ومِن قائلٍ إنَّها بِدعَةٌ مُستَحسَنَةٌ. والخِلافُ يِرجِعُ فِي الأَصلِ إلى تَقسِيمِ البِدعَةِ فَهُناكَ مَن قالَ بِالبِدعَة المُستَحسَنَةِ وهُم الشّافِعِيَّةُ وعَلى رَأسِهِم العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ والقَرافِيُّ ـ وهوَ مالِكِيٌّ ـ لَكِنَّه قالَ بِهَذِهِ المَسأَلَةِ وفَصَّلَها تَفصِيلاً طَويلاً. جَعَلَ ما يَشمَلُهُ دَلِيلُ النَّدبِ ودَلِيلُ الاستِحبابِِ مُستَحَبّاً وما يَشمَلُهُ دَليلُ الوجُوبِ يَكُونُ واجِباً فِي البِدعَةِ وما يَشمَلهُ دَلِيلُ الكَراهَةِ يَكُونُ مَكرُوهاً، إلى آخِرِهِ. فَجَعَلَ البِدعَةَ تَنقَسِمُ إلى خَمسَةِ أَقسامٍ. هَذا التَقسِيمُ أَيضاً لَم يَقبَلهُ بعضُ العُلَماءِ. فقالُوا: إنَّ البِدعَةَ إذا أطلقت فهِيَ بِدعَةٌ مُستَقبَحَةٌ وجَعَلوا قَولَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ نِعمَتِ البَدعَةُ هَذِه فِي صَلاةِ التَّراويحِ بِدعَةً لَفظِيَّةً. وهَذا ما يَقُولُه تَقِيُّ الدِينِ بنُ تَيمِيَّةَ والشّاطِبِيُّ فِي كِتابِهِ ( الاعتِصامِ ). وكَثِيرٌ مِن العُلَماء مَن المالِكِيَّةِ والحنابِلَةِ يَتَّجِهُونَ هَذا الاتِجاهَ.
وقَضِيَّةُ المَولِدِ أَلَّفَ فِيها بَعضُ العُلَماءِ كَالسِيوطِيُّ تَأييداً وأَلَّفَ فِيها بَعضُ العُلَماءِ تَفنِيداً، فَلا أَرى أَن نُطِيلَ فِيها القَولَ وأن نُكثِرَ فِيها الجدل.
فَحاصِلُ الأَمرِ؛ أَنَّ مَن احتفل به فسرد سيرته صلى الله عليه وسلم والتذكير بمناقبه العِطرة احتفالاً غير مُلتَبِس بِأَيِّ فِعلٍ مَكرُوهٍ مِن النّاحِيَةِ الشَرعِيَّةِ ولَيسَ مُلتَبِسَاً بِنِيَّةِ السُنَّةِ ولا بِنِيَّةِ الوجُوبِ فإذا فَعَله بِهَذِهِ الشُّروطِ التي ذَكَرتُ؛ ولَم يُلبِسه بِشَيءٍ مُنافٍ للشَّرعِ، حباً للنبي صلى الله عليه وسلم فَفِعلُهُ لا بَأسَ بِهِ ـ إن شاءَ اللهُ ـ وهو مُأجَورُ فقد ذَكَرَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَةَ، قالَ: إنَّهُ مَأجُورٌ على نيته؛ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي ( اقتَضاءِ الصِّراطِ المُستَقِيمِ ) أَمّا مَن تَركَ ذَلِكَ أيضاً يُرِيدُ بِذَلِكَ مُوافَقَةَ السُنَّةَ وخَوفاً مِن البِدعَةِ فَهَذا أَيضاً يُؤجَرُ ـ إن شاءَ اللهُ ـ فَالأَمرُ لَيسَ كَبِيراً ولَيسَ مُهَوِّلاً ولا يَنبَغِي أَن نَزِيدَ فِيهِ عَلى ما يَقتَضِيهِ الحالُ. فَهُناكَ بَعضُ الأَقطارِ الإسلامِيَّةِ التي تَحَتَفِلُ بِالمولد وتَقُومُ بِبَعضِ الطّاعاتِ فِي الأَيّامِ المُفَضَّلَةِ واختَلَفَ العُلَماءُ فيها بَينَ مَن كَرِهَها وبَينَ مَن أَجازَها كَما ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ الزَّقّاقُ فِي مَنهَجِهِ وغيره مِن كُتُبِ المالِكِيَّةِ الذِينَ أَفاضوا فِي هَذهِ المَسأَلةِ وفِي تَفصِيلِ البِدعَةِ وهَل المُحدَثاتُ بِدعَةٌ مكروهة أو أنها تنقسم إلى أقسام كما ذهب إليه القوافي، فَالمَسأَلَةُ فِيها خِلافٌ. وَنَظرَتُنا للمُصالَحَةِ بَينَ المُسلِمِينَ بِمُحاوَلَةِ تَحجِيمِ هَذهِ الخِلافاتِ هِيَ دائماً نَظرَةٌ مُيَسِّرَةٌ. وهَذا التَّيسِيرُ لَيسَ مُنطَلِقاً مِن فَراغٍ فَهوَ تَيسِيرٌ يَرجِعُ للكِتابِ والسُنَّةِ وما أَمَرَ به النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِن إصلاحِ ذاتِ البَينِ. فَانطِلاقاً مِن المَقاصِدِ الأَصلِيَّةِ للشَرعِ؛ فإذا وجِدَ خِلافٌ مُعتَبَرٌ فِي مَسأَلَةٍ راعَينا ذَلِكَ الخِلافَ ولَيسَ ذَلِكَ تَمييعاً كَما يَزعُمُ البَعضُ ولَيسَ انحِلالاً. بَل هوَ مُراعاةٌ لِخِلافٍ مُنضَبِطٍ بأَدِلَّةُ شَرعِية غير واضِحَةً فِي جانِبٍ ولَيسَت مُفَنِّدَةً للجانِبِ الآخَرِ تَفنيداً كافِياً. فَهيَ عِبارَةٌ عَن ظَواهِرَ؛ عِبارَةٌ عَن أَمرٍ لَم يَكُن مَعمُولاً بِهِ حَدَثَ عَمَلٌ بِهِ البَعضُ أَقامَ الدَلِيلَ عَلى هَذا العَمَلِ والبَعضُ الآخَرَ نَفى هَذا العَمَلَ. فَنَقُولُ: كُلٌ ـ إن شاءَ اللهُ ـ عَلى خَيرٍ إذا لَم يَلبِس عَمَلَهُ بِظُلمٍ ويَلبِس عَمَلَهُ بِنِيَّةٍ غَيرِ صَحِيحَةٍ واللهُ سُبحانَهُ وتَعالى أَعلَمُ.
ويقول الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية : " الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات لأنه تعبير عن الفرح والحب له صلى الله عليه وسلم ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان".(البيان القويم ص:25 ).
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي
هناك لون من الاحتفال يمكن أن نقره ونعتبره نافعا ًللمسلمين،ونحن نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالهجرة النبوية ولا بغزوة بدر، لماذا؟
لأن هذه الأشياء عاشوها بالفعل، وكانوا يحيون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً في ضمائرهم، لم يغب عن وعيهم، كان سعد بن أبي وقاص يقول: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفِّظهم السورة من القرآن، بأن يحكوا للأولاد ماذا حدث في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وفي غزوة خيبر، فكانوا يحكون لهم ماذا حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا إذن في حاجة إلى تذكّر هذه الأشياء.
ثم جاء عصر نسي الناس هذه الأحداث وأصبحت غائبة عن وعيهم، وغائبة عن عقولهم وضمائرهم، فاحتاج الناس إلى إحياء هذه المعاني التي ماتت والتذكير بهذه المآثر التي نُسيت، صحيح اتُخِذت بعض البدع في هذه الأشياء ولكنني أقول إننا نحتفل بأن نذكر الناس بحقائق السيرة النبوية وحقائق الرسالة المحمدية، فعندما أحتفل بمولد الرسول فأنا أحتفل بمولد الرسالة، فأنا أذكِّر الناس برسالة رسول الله وبسيرة رسول الله.
أما الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: فيرى أن ذلك جائز شرعاً ولو لم يكن له أصل بمعنى أنّه لم يحتفل به الصحابة والتابعون ولا تابعو التابعين من أهل الفقه في الدين وهم خير القرون. ولكن لما جهل كثير من المسلمين صفات الرسول (صلَى الله عليه وسلَم) وحياته، وكيف كان يعيش حياة البساطة والتواضع والرحمة والشفقة، وأصبحت محبة الرسول (صلَى الله عليه وسلَم) في قلوب الكثيرين محبة سطحية، جمع أحد سلاطين المسلمين العلماء وطلب من أحدهم أن يؤلف كتاباً يتناول حياة الرسول منذ الولادة إلى الوفاة وذكر أخلاقه الطيبة العطرة، وأقام لذلك احتفالاً مهيباً وصار الاحتفال بالمولد ذكرى استحبها كثير من العلماء وبقيت حتى يومنا هذا.
إلاّ أنّه لا بدّ من القول: إنّ هذا الاحتفال ليس نوعا من العبادات التي يشرّعها الله ، ولكنّه من أنواع العادات والأعراف التي يخترعها النّاس، ثمّ يأتي الشّرع بإباحتها إذا لم يكن فيها حرام، أو بمنعها إذا اشتملت على محرّمات. وبما أن ذكرى المولد في الأصل تذكير بسيرة الرّسول (صلَى الله عليه وسلَم) وأخلاقه فهي مباحة وفيها من الأجر إن شاء الله ما لا يخفى. اهـ
ثم إذا أخذنا مسألة الإحداث والبدعة على وجه الإطلاق فأخشى أن معظم ما نعيشه في حياتنا اليوم سيكون من البدع والمحدثات الضالة .فهل كان الصحابة رضوان الله عليهم ينظمون مسابقات للقرآن الكريم يجمعون لها أبناء المسلمين من جميع أنحاء العالم , وهل كانوا يمنحون الفائزين جوائز , وكذلك الحال بالنسبة للسنة و السيرة المشرفة .
وهل كان عند الصحابة جامعات ومعاهد إسلامية بهذا الاسم . أو ليست الامتحانات والشهادات هي البدعة بعينها .وهل سمعتم أن صحابيا واحدا كان يقال له الدكتور . وهل سمعتم أن صحابيا أحرم في الطائرة وغير ذلك كثير . . ؟
خامسا:الكثرة ليست دليلا :
أعرف أن إخوتنا في المدرسة السلفية , سيردون على هذه النقطة بأن الكثرة ليست دليلا شرعيا , بل إنهم يستدلون بالآية الكريمة : " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله . "
وأعتقد أن هذا اتهام خطير بأن نحكم على أغلبية المسلمين بأنهم أهل ضلال , لكن إن كانت الكثرة ليست دليلا شرعيا فهل القلة هي بذاتها الدليل الشرعي . فالأصل أن الحق ثابت قد يكون مع الكثرة كما انه قد يكون مع القلة .
سادسا:الحزن أولى من الفرح :
لا أقول في هذه النقطة إلا أنه إذا كان المحتفلون يحيون الذكرى فرحا بمولده , فلماذا لا يقيم الآخرون مأتما بهذه المناسبة ما داموا رأوا أن الحزن أولى .
أما النقاط الأخرى التي أشرنا لها سابقا ضمن اعتراضات السلفيين ,مثل التشبه بالنصارى والجهل والتعصب واتهام الصحابة بعدم فهم مقاصد الشرع فأظن أن أي إنسان يتسم بالحد الأدنى من الإنصاف والموضوعية والعدل لا يمكنه أن يصدق أن المسلمين يحتفلون بالمولد النبوي الشريف تعصبا أو جهلا أو تشبها بالنصارى , فكيف أن يتهموا الصحابة بأنهم لم يفهموا مقاصد الشرع .
كلام خطير : لكن لعل أخطر ما يؤخذ على إخوتنا في السلفية قولهم إن الفرح إنما يكون بالمبعث والإسلام وليس بالمولد . يقول أحد هؤلاء : " المولد نفسه ليست فيه المنة كما في بعث الرسول صلى الله عليه وسلم . . . إلى أن يقول : إذ أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يوحى إليه ليس نبيا ولا رسولا ولا تاليا لآيات الله ولا معلما للكتاب والحكمة" .
ويقول آخر : فالفرح هو بالإسلام والهداية ولم يذكر الله الفرح أبدا بالمولد في كتابه الكريم . . فليست الولادة المجردة هي النعمة المطلقة بل الهداية للإيمان والبعث .. .
أما نحن فنقول إننا نفرح بمولده ـ مجرد مولده ـ وبمبعثه وبوحيه وبملته وبهجرته وشريعته وبكل أثر من آثاره عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ونحمد لله ونثني عليه أن خلقه وبعثه وهدانا به.
ونقول كما قال الشيخ الخليل النحوي:
يـــا نبي الهدى عليـــــــــك ســـــــــلام
بشـــذاه تَضَـــــــــــــوعَ الياسميـــــــــن
وأضـــاءتْ زُهْرُ الكــواكب وازدا (م)
نت ريــاض خُضْرٌ وماســــــــــتْ غصون
ما لمن غاب عنك عنك اصطبـــــــــار
ما لمن لم يزرك دمـــــــع حـــــــــرون
أنت نور الضـــحى إذِ الليـــــــــلُ ساجٍ
مُدْلَهِمٌّ ، إذِ الرحــــــــــــاب سجـــــــون
قبسا كنت والــــــــــدُّنـَى ظلمــــــــــات
وهدى كنت والحيــــــــــاةُ فتُــــــــــون
وندى كنت والبــــــلاد صحــــــــــاري
وقلـوب العبــــــــــــاد ذل وهُــــــــــون
بـالحيـــاة الدنيا رضوا واطمأنــــــــــوا
ونَسُــــوا الله وهْــــــو حـــــــــــق مبين
واستفزتهم الشيـــــــــاطين ، كانـــــــوا
قرنـــــاءً لهــــم وبيــــــس القريــــــــن
حَرَمُ اللهِ ليــــــــس يُعْبــــــــــــــــد فيه
إنما يُعْبَد الهــــــــوى والبطـــــــــــــون
سَكْرةٌ يعمهـــون فيــــــــــها وتِيـــــــــهٌ
ومن الشـــــرك والهـــوى أفيــــــــــون
ثم جــــــاء النبي : حـــــــق ونــــــــور
وكتـــــــــاب مطـــــــــهر مكنــــــــون
كتب الله أن يكـــــــــــــون غيــــــــــاثا
إنما الأمر منه كــــــــــاف ونـــــــــون
فَعَنَتْ دولة الضــــــلال ودالــــــــــــت
وتهــــــاوت قلاعــــــــــــها والحصون
وقلوب كــــــــــــانت هـــــــــــواء فلما
غادرتها الظنــــــون جـــــــــــاء اليقين
إن يك الحبُّ دينَ قوم فإني
ورعيلي بحب طه ندين
وحبنا له صلى الله عليه وسلم لا يستثني شيئا بل إننا نحبه حتى قبل مولده .
ونقول كما قال العلامة الشيخان بن محمد الطلبة رحمه الله :
لك الحمد إذْ أرسلت أحمـد رحمـــة = = إِلَى الْخَلْقِ مُهْدَاةً مَحَوْتَ بِهِ الْـــــوِزْرَا
فلولاه لم نسـلك إلى الحـقِّ مسلـكـا = = وَلَمْ نَجْتَنِبْ نَهْـياً وَلَمْ نَمْتَثِلْ أَمْـــــرَا
ومولده الميمـون يا نعـم يومــه = = وَيَا نِعْمَـهُ عَامـاً وَ يَا نِعْمَـه ُ شَهْــرَا
شَـفَتْنَـا به الشِّـفاءُ إذْ هي بشـرت = = بمولـده يَا نِعْمَهَـا النِّعْمَـةَ الْكُـــبرى
له قد حمـدنا حـيث سمي أحمـــدا = = وَتِلْكَ بِحَمْـدِ الله مَحْمَـدَة أُخْـــــرى
فيا نِعمَـه نَجْـلاً ويا نِعمَـه أبـــاً = = وَيَا نِعْمَـهُ زَوْجـاً وَيَا نِعْمَـه ُ صِهْـــرَا
ويا نِعمَـه عبـداً لمـولاه ســـيداً = = عَلَى خَلْقِـهِ لاَ خُلْفَ فِيهِ وَلاَ نُكْـــــرَا
ويا نِعمَـه حصـناً وكهفاً و ملجــأ = = وَيَا نِعْمَـهُ جَـبْراًَ لِمَنْ يَشْـتَكِي كَسْــرَا
ويا نِعْمَـه علمـاً وحلمـاً و حكــمةً = = وَ يَا نِعْمَـهُ جُــوداً نَذُمُّ لَهُ الْبَحْـــــرَا
ويا نِعمَـه حُسْـناً ونـوراً و بهجــةً = = نَذُمُّ لَهُ شَـمسَ الظَّـهِـيرَةِ وَ الْبَـــدْرَا
ولمَّـا نفـاهُ المشـركون و أعلنـوا = = عَلَى الْمُسْـلِمِـينَ التَّـابِعِينَ لَهُ الشَّــرَّا
غـزاهم وهم جـمٌ غفـيرُ مضــللٌ = = فَأَهْدَى وَ أَبْدَى الْقَتْلَ وَ السَّبْيَ وَ الاْسْــرَا
أقامت لنا دين الهـدى غــزواتُـهُ = = فَلاَ غُـزْوَةٌ إِلاَّ بِهَا أَحْـرَزَ النَّصْــرَا
ومازال يغـزوهم بعـزمٍ مؤيَّـــدٍ = = بنُصْـرَةِ دِينِ الله كَيْ يَهْـدِمَ الْكُفْـــرَا
ونقول عن مولده صلى الله عليه وسلم كما قال السيد أبو الحسن الندوي بعد أن ذكر أنه ولد يوم 12 ربيع الأول قال:
فكان أسعد يوم طلعت فيه الشمس
(السيرة النبوية ص 86)
ولكني أخشى أن يكون كتاب السير من العصر الأول وحتى اليوم قد ابتدعوا عندما وصفوا لنا تفاصيل حياته صلى الله عليه وسلم منذ مولده بل قبل ذلك إلى طفولته وفتوته ومكانته في قومه , فلعل ذلك من البدع ما دمنا لا يهمنا من حياته إلا البعثة المشرفة وما بعدها .
وأقول أخيرا لإخوتنا في السلفية : إن كل ما أريده هو أن يسلموا بأن الاحتفال بالمولد هو مسألة خلاف بين أهل العلم , من شاء اتبع هذا الفريق ومن شاء اختار النهج الآخر والمسألة فيها سعة .
فلا يعقل أن يكون الشافعي لا يفهم معنى البدعة , ولا يستساغ أن ابن رجب والعز بن عبد السلام وابن حجر والسيوطي بلغوا من الجهل أن أيدوا أو سكتوا عن الاحتفال بالمحدثات الضالة . .. ليأتي بعض المتأخرين ينبهونا على جهلهم . .
وكذلك بعض أجلاء المشايخ في عصرنا الحاضر لابد أنهم يميزون ماذا تعني البدعة المذمومة .
وأتساءل أخيرا لماذا نضيع كل هذا الجهد في هذه المسألة التي لا تزيدنا إلا تشتتا وفرقة في وقت نحن أحوج فيه لأن نجتمع ونتعاون ونتصالح وننظر إلى ما يجمعنا أكثر من نظرنا إلى ما يفرقنا ألسنا كلنا من المسلمين ألسنا كلنا من أهل السنة إلا إذا أصر بعضنا على إخراج غالبية المسلمين من السنة...
واقترح بهذه المناسبة على الإخوة في الرسالة تنظيم ندوة أو لقاء أو جلسة يحضرها ممثلون عن الطرفين ليتحاوروا لعل ذلك يكون في مصلحة الأمة .
وصلى وسلم على الشفيع الحبيب ذي الخلق العظيم الذي لم تلد النساء مثله.
ملحق الرسالة - جريدة المدينة
بتاريخ 10 ربيع الآخر 1428هـ
منقول من موقع التيسير