بسـم الله الرحمـن الرحيـم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على قائد الغر المحجّلين, محمد الصادق الأمين, وبعد:
اعلم أخي الكريم أنّ اللحى هي حلية الرجال, وزينة الأبطال, فالحمد لله الذي زيّن الرجال باللحى.
وإعفاء اللحى من سنن الهدى, التي ينبغي للمسلم أن يعض عليها بالنواجذ خصوصاً في زمن الغربة, وانتشار أشباه الرجال من المخانيث.
وإليك دلائل وموجبات إعفاء اللحى:
1- ورود النصوص الكثيرة - التي قد تبلغ مبلغ التواتر المعنوي - في وجوب إعفاء اللحى, وحرمة الأخذ منها.
حيث وردت بألفاظ متباينة, كل تدلّ على معنى واحد وهو وجوب ترك اللحية على حالها وعدم جواز الأخذ منها, ومن هذه الألفاظ: (أعفوا), (وفروا), (أمر بإعفاء اللحى), وغير ذلك.
وكل هذه الأحاديث في الصحاح, دالة على وجوب إعفاء اللحى, لورودها بصيغة الأمر المفيدة للوجوب.
ومنها على سبيل المثال: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحفوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين).
2- أنّ إعفاء اللحى فيه اقتداء بالأنبياء قبلنا, وبنبينا وأسوتنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الاقتداء واجب, لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
وقد بيّن القرآن حال الأنبياء عليهم السلام في إعفاء اللحى, قال تعالى عن هارون عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان كثّ اللحية, فعن جابر بن سمرة :"قال كان رسول الله قد شمط شاب مقدم رأسه ولحيته وكان إذا دهن لم يتبين وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية" (رواه مسلم).
3- أنّ في إعفائها تمام البراءة من المجوس والمشركين – كما تقدّم في حديث ابن عمر الآنف-, لأنّ هؤلاء يحلقون لحاهم, ونحن مأمورون بمخالفتهم.
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس".
فالحالق للحيته متشبه بالمجوس والمشركين, ولا شكّ أنّ مشابهة القوم في السمت الظاهر يوجب محبتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمشابهة, والمشاكلة في الأمور الظاهرة, توجب مشابهة, ومشاكلة في الأمور الباطنة, على وجه المسارقة, والتدريج الخفي...
والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة, وائتلافاً, وإن بَعُدَ المكان والزمان, فهذا أيضاً أمر محسوس...
ومشابهتهم -أيّ: الكفّار- في الظاهر, سببٌ, ومظِنَّة لمشابهتهم في عين الأخلاق, والأفعال المذمومة, بل في نفس الاعتقادات"("اقتضاء الصراط المستقيم" 1/220 ).
4- أنّ في إعفاء اللحى كمال للرجولة وتمام لها, بخلاف الحالق للحيته متشبه بالنساء, متعرض للوعيد.
" لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء" (رواه البخاري).
فزينة الرجل في لحيته, كما قال ابن القيم رحمه الله: "شعر اللحية فيه منافع منها الزينة والوقار والهيبة، ولهذا لا نرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يُرى على ذوي اللحى، ومنها التمييز بين الرجال والنساء"( (التبيان في أقسام القرآن, ص 196).).
وقال ابن عابدين: "الأخذ من اللحية دون القبضة ( فوق القبضة ) ، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد" (الحاشية 2/417)..
5- أنّ الله أنبت اللحى للرجال لحكمة عظيمة, ذكرها بعض الأطباء.
وهي أنّ شعر اللحية يحمي - بإذن الله عصب الوجه - مهما تغيرت الظروف المناخية صيفاً وشتاء, كما أنّها تحمي الجلد من المكروبات والفيروسات.
شبه والجواب عليها:
1- يتحجج بعض من يحلق لحيته, بأنّ اللحية سنة.
والجواب: أنّ السنة في الاصطلاح تطلق ويراد بها أمور منها:
أ- تكون السنة مرادفة للحديث, بمعنى كل ما أضيف للنبي من قول أو فعل أو تقرير.
ب- وتكون بمعنى المستحب, أي ما يقابل الواجب.
فاللحية سنّة بمعنى أنها من هدي النبي وسمته, وإن كانت في حقيقة الأمر واجبة.
2- ويتحجج البعض ممن ابتلي بحلق لحيته, أنّ حلق اللحية مكروه عند المالكية.
الجواب: لقد اتفق الأئمة الأربعة على تحريم حلق اللحى, وعلى وجوب إعفائها.
قال الشيخ علي محفوظ: "وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها"(الإبداع في مضار الابتداع 409).
وإليك مذهب المالكية في حلق اللحى.
جاء في مواهب الجليل شرح مختصر الشيخ خليل (1/313): "وحلق اللحية لا يجوز وكذلك الشارب وهو مُثلة وبدعة, ويؤدب من حلق لحيته أو شاربه إلا أن يريد الإحرام بالحج ويخشى من طول شاربه.اهـ
واتفق أبو الحسن المالكي في شرحه, والعدوي في حاشيته على (كفاية الطالب) على أن حلق اللحية بدعة محرمة في حق الرجل.
وقال أبو العباس القرطبي المالكي في المفهم: "لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قص الكثير منها".اهـ
مسألة: هل يجوز حلق اللحية لأجل الوظيفة.
أولاً: يحاول بعض من يحلق لحيته تبرير فعلته بنبل وظيفته:
وهذا ما يطلق عليه مبدأ: "الغاية تبرر الوسيلة" بمعنى ما دامت الغاية شريفة نبيلة, فلا بأس لتحصيلها من اتخاذ وسائل غير مشروعة.
وهذا المبدأ اليهودي المكيافلي مبدأ ساقط شرعاً, وعقلاً, لأنّ الوسائل لها حكم الغايات, فلا يتوصّل إلى الغاية الشريفة إلا بالوسيلة المشروعة.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: "لا يتقرب إلى الله إلاّ بأنواع المصالح والخيور, ولا يتقرّب إليه بشيء من أنواع المفاسد والشرور"("قواعد الأحكام" 1/112. ).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس كلّ سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً ولا مباحاً, وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته, مما أذن فيه الشرع"("مجموع الفتاوى" 27/177. ).
ويقول الإمام ابن باز رحمه الله: "لا يجوز للمسلم أن يحلق لحيته لأسباب سياسية، أو ليُمَكََّن من الدعوة، بل الواجب عليه إعفاؤها, وتوفيرها؛ امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه من الأحاديث، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب, وأرخوا اللِّحى, خالفوا المجوس»( رواه مسلم).
فإذا لم يتمكَّن من الدعوة إلاّ بحلقها, انتقل إلى بلاد أخرى يتمكن من الدعوة فيها بغير حلق، إذا كان لديه علم وبصيرة؛ عملاً بالأدلة الشرعية في ذلك ..."( "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" 10/91.).
ثانياً: هل الوظيفة ضرورة تبيح محظور حلق اللحية ؟
إنّ الضرورات تبيح المحظورات, وهي قاعدة فقهية مشهورة.
ولكن الضرورة تقدّر بقدرها, فليس كل حاجة ضرورة.
والضرورة يسند في ضبطها إلى أهل العلم, إذ لو وُكِلَ أمرها للعامة والدهماء, لغدت كل الحوائج ضرورة تستباح به الحرمات.
والوظيفة مهما نبلت – حتى الدعوة إلى الله – لا تبيح بأي حال, حلق اللحية, لأنّها ليست بضرورة شرعية.
فباب الرزق مفتوح, ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه.
وأنقل للقارئ فتوى لعلم الأمة العلامة ابن باز رحمه الله في حكم حلق اللحية للوظيفة.
ورد سؤال للشيخ رحمه الله هذا نصه: "أنا أعمل ضابط صف في البحرية الملكية و النظام فيها يجبرنا على حلق اللحية. نطلب منكم -جزاكم الله خيرا- إفادتنا في هذا الموضوع. وأحيطكم بأني فاتحت أبي وأمي في الموضوع بضرورة تركي للعمل بحجة ضعف الراتب لوازعهم الديني الضعيف فرفضا و هم يبلغان الكبر(حوالي السبعين)، ووالدي يعاني من مرض القلب, فماذا يجب علي؟
الجواب: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ولا يجوز الحلق إلا في حالة الإكراه فقط، ولا إكراه هنا؛ لأنك تستطيع أن تترك هذا العمل "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ".
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه وحرّره: أبو يزيد المدني.
منقول