وعد بلفور 02 نوفمبر 1917
مقدمة:
سيبقى الكيان الصهيوني غريباً غير قابل للحياة لأنه أقيم خارج الحياة و التاريخ والجغرافيا والشرائع والقوانين فالباطل الذي تمثله الدولة العبرية هو نتيجة للمكر و الدهاء و التآمر الذي تجسد في وعد بلفور المشؤوم الذي صدر قبل 88 عاماً ، والذي أطلق الشرارة الأولى للعدوان والعنصرية والاحتلال والتوسع في المنطقة، ووفر الأساس لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، هو المؤامرة الكبرى التي استهدفت الأمة العربية والتي ما زالت حتى الآن تعاني من ذيولها ونتائجها.
إن من لا يملك أعطى من لا يستحق، وكانت النتيجة أن فلسطين تحولت إلى أكبر قاعدة صهيونية استعمارية استيطانية ، وشعبها تحول إلى مجموعات من اللاجئين بعدما أهدرت حقوقهم وسلبت أرضهم، وأصبح الكيان الصهيوني هو بؤرة الإرهاب والخنجر المسموم الذي قطع أوصال الأمة وفصل مشرقها عن مغربها. هذا الذي يعاني منه شعب فلسطين الآن، ومعه الأمة العربية، هو نتيجة لذلك الوعد الذي أعطاه وزير الخارجية البريطاني آنذاك بإنشاء وطن قومي لليهود على ارض فلسطين، والذي استهدف إزالة شعب وأرض من على وجه الكرة الأرضية.
رغم ذلك، فإن الشعب الفلسطيني الذي كان ضحية مؤامرة الدول الغربية عليه، وإن كان لم يتمكن من إفشالها، ورفض الإذعان والتسليم لما أراده الأقوياء والاستعماريون.
01/ وعد أو تصريح بلفور: وثيقة حكومية بريطانية تبنت إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين. أصدر الوثيقة وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور عام 1917م، وهي الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
نص وعد بلفور:
أرسل وزير خارجية بريطانيا بلفور الخطاب التالي في 02 نوفمبر1917 م إلى روتشيلد :
"عزيزي اللورد/ روتشيلد، يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود و الصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته كما يلي:
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".
وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.
المخلص
آرثر بلفور
02/ التعريف بشخصية صاحب الوثيقة:
بلفور، آرثر جيمس (1848 - 1930م): عمل رئيسًا لوزراء بريطانيا من عام 1902 م إلى 1905م، وكان زعيم حزب المحافظين أكثر من 20 سنة. له بيانان شهيران يحملان اسمه، أحدهما يؤيد فيه مساندة بريطانيا لعملية جعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود. وأدت تلك المساندة البريطانية الظالمة إلى مأساة فلسطين التي ما تزال ترمي بظلالها الكئيبة على العالم العربي. انظر: وعد بلفور. أما الثاني فكان تقرير عام 1926م عن المؤتمر الإمبراطوري الذي أعطى الوضع الشرعي بصورة رسمية للكومنولث البريطاني.
عمل بلفور وزير خارجية في حكومة الحزب الائتلافية التي ترأسها دافيد لويد جورج من عام 1916م إلى 1919م. أصبح بلفور زعيمًا للمحافظين في مجلس اللوردات، ثم عمل رئيسًا لمجلس اللوردات من عام 1924 - 1929م.
وُلِدَ بلفور في ويتنجهام التي تعرف حاليًا بمقاطعة لوثيان، في أسكتلندا. انتظم بلفور ودرس في كلية إيتون وجامعة كمبردج، في إنجلترا. انتخب لأول مرة في البرلمان عام 1874م، وعمل وزير أول لأسكتلندا عام 1886م، ثم وزيرًا رئيسيًا لأيرلندا من عام 1887 - 1891م، وأول رئيس للخزانة من عام 1895 - 1902م.
03/ الجهود التي بذلها الصهاينة من أجل تحقيق هدا الوعد:
وعد بلفور البدايات الأولى: ترجع البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود، يجمع شتاتهم ويكون حارسًا على مصالح دول (أوروبا) الاستعمارية في الشرق إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، وتجلى ذلك بوضوح في خطاب "نابليون" الذي وجهه إلى يهود الشرق؛ ليكونوا عونًا له في هذه البلاد.
وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي (موسى هس) يقول: إن "فرنسا" لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى "الهند" و"الصين" وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت.. فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟!
ومع نهايات القرن التاسع عشر انتقلت فكرة الصهيونية التي تزعمها "تيودور هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية – من مرحلة التنظير إلى حيّز التنفيذ، وذلك بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام (1314هـ : 1897م)، وتجلى ذلك بوضوح في سعي الصهيونيين الدائب للحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي يهودي.
الصهيونية والدولة العثمانية: كان التفكير يتجه في البداية إلى منح اليهود وطنًا في شمال أفريقيا، ثم تلا ذلك تحديد منطقة العريش، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، فاتجه تفكير اليهود إلى "فلسطين"، وسعوا للحصول على وعد من الدولة العثمانية - صاحبة السيادة على "فلسطين" - لإنشاء وطن لليهود فيها، وسعى "هرتزل" إلى مقابلة السلطان "عبد الحميد"، وحاول رشوته بمبلغ عشرين مليون ليرة تركية، مقابل الحصول على فلسطين، ولكن السلطان رفض وقال: "لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، إن الإمبراطورية ليست لي، بل للشعب التركي، ولا أستطيع أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل، إنما لن تقسم إلا جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان".
الصهيونية وبريطانيا: ولكن فشل الصهاينة في أخذ وعد من الدولة العثمانية لم يثنِ "هرتزل" عن المضي في العمل على تحقيق مشروعه، وبدأ اليهود ينشرون فكرتهم على نطاق واسع في أوروبا، ووجدت الفكرة صدى وتجاوبًا لها في الغرب لدى عدد من الساسة والزعماء، وكان "آرثر بلفور" - وزير الخارجية البريطاني - من أكثر المتحمسين لها، فقد كان معروفًا بتأثره بالفكر الصهيوني، وتعاطفه الشديد مع الصهيونيين.
ونشط الصهيونيون في التقرب من البريطانيين، وانبروا يؤكدون لهم قدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا والحفاظ على مصالحها، وهكذا بدأ البريطانيون يضعون الخطوط الرئيسية لفكرة الوطن اليهودي، وتركزت في البداية على مفهوم إيجاد ملجأ للمضطهدين من اليهود المهاجرين، ولكن الجانب الصهيوني عارض هذا الاتجاه، واستقر الطرفان - في النهاية - على مشروع الوطن القومي.
اندفع الصهاينة منذ عام 1902م بالضغط على البريطانيين لدعم برنامجهم. وقد اكتشف هيرتزل منذ بداية نشاطه حقيقة بديهية، وهي أنه لابد لتنفيذ المخططات الصهيونية من الاعتماد على دولة إمبريالية كبيرة، تقوم بتوفير الأرض للمستوطنين وحمايتهم من السكان الأصليين والدفاع عنهم في المحافل الدولية. لذا توجه هيرتزل إلى جميع الدول الكبرى ذات المصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط، ابتداء بالدولة العثمانية ومرورًا بفرنسا وألمانيا، وانتهاء بإنجلترا. ففي ذلك العام حض ثيودور هيرتزل الحكومة البريطانية، وبشكل خاص وزير المستعمرات جوزيف تشمبرلين، على تأييد الاستيطان اليهودي في فلسطين. وخلال عامي 1915م و 1916م، ضغط القادة الصهاينة وبخاصة حاييم وايزمان زعيم الحركة الصهيونية على الحكومة البريطانية للتصديق على فكرة قيام وطن يهودي في فلسطين. وفي 2 نوفمبر عام 1917م، وبعد مناقشات مكثفة داخل الحكومة البريطانية، وجه آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى اللورد روتشيلد طالبًا منه توزيع نص وعد بلفور على العصبة الصهيونية.
04/ موقف الدول الغربية من وعد بلفور:
كانت فرنسا صاحبة أول بيان صدر تأييدًا لتلك المبادرة الشائنة، فقد أصدر وزير الخارجية الفرنسي "ستيفان" بيانًا مشتركًا مع ممثل الجمعيات الصهيونية "سكولوف"، عبّرا فيها عن ارتياحهما عن التضامن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في قضية إسكان اليهود في "فلسطين".
وإزاء حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها "وعد بلفور" أرسلت "بريطانيا" رسالة إلى "الشريف حسين" إمعانًا في الخداع والتضليل، حملها إليه الكولونيل "باست" تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان في "فلسطين" إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكنها - في الوقت نفسه - أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في "فلسطين" أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة "حاييم وايزمان" خليفة "هرتزل".
ولم تكد تمضي بضعة أشهر على هذه الأحداث، حتى وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ودخلت الجيوش البريطانية بقيادة اللورد "اللنبي" إلى القدس، وهناك ترجّل القائد الإنجليزي وقال كلمته الشهيرة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية".
وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام دخل الجنرال الفرنسي "غورو" دمشق في عام (1338هـ: 1920م) ووضع قدمه على قبر "صلاح الدين الأيوبي" وهو يقول في تحدٍّ وتشفٍّ لا يخلو من حقد دفين: "ها نحن قد عدنا ثانية يا صلاح الدين".
وفي (رجب 1338هـ : إبريل 1920م) يوافق "المجلس الأعلى لقوات الحلفاء" على أن يعهد إلى "بريطانيا" بالانتداب على "فلسطين"، وأن يوضع "وعد بلفور" موضع التنفيذ.
ثم ما يلبث مجلس "عصبة الأمم المتحدة" أن وافق على مشروع الانتداب في (11 من ذي الحجة 1341هـ : 24 من يوليو 1923م)، ثم دخل مرحلة التطبيق الرسمي في (18 من صفر 1342هـ : 29 من سبتمبر 1923م).
وتتلاقى خطوط المؤامرة وتتضح أهدافها بعد أن يتخذ اليهود من "وعد بلفور" ذريعة لقيام دولتهم، فقد أشار إعلان قيام "إسرائيل" إلى اعتراف "وعد بلفور" بحق الشعب اليهودي في تحقيق بعثه القومي على بلاده الخاصة به، كما استندوا على أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أقرت في (16 من المحرم 1367هـ : 29 من نوفمبر 1947م) مشروعًا يدعو إلى إقامة دولة يهودية على أرض "فلسطين".
05/ موقف العرب من صدور وعد بلفور:
وكان الناطق العربي الوحيد الذي له شأن وسلطة فيصل بين الحسين الذي قدم احتجاجاته بإلحاح، وقد نفض أولاً يديه، في رسالة رسمية إلى الحكومة البريطانية، من مزاعم الصهيونيين بأنه "أقر" لهم بسياسة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقال في رسالته:"إن كل ما اعترفت به هو أن أؤمن حقوق اليهود في تلك البلاد بالقدر الذي أؤمن به حقوق السكان العرب المحليين". وجلب الانتباه إلى معارضة سكان عرب فلسطين القوية، وأكد وجهة النظر العربية بأن فلسطين هي ضمن المناطق التي وعدت بريطانيا بمنحها الاستقلال وعبر عن ثقته بأن ذلك الوعد البريطاني لا يلغيه وعد لاحق للصهيونيين. وأضاف أن والده (الشريف حسين) مخول، حتى بمقتضى اتفاقية سايكس – بيكو، أن يؤخذ رأيه بصدد مستقبل فلسطين، لكنه، ومما يثير للدهشة، لم يشر إلى الرسالة البريطانية إلى والده التي تلقاها بواسطة "هوغارت" والتي جعلت الوعد لليهود خاضعاً لحرية عرب فلسطين السياسية والاقتصادية. وختم فيصل رسالته قائلاً: إذا ما أمكن الإبقاء على وحدة سوريا وفلسطين، "فبوسعنا أن نتوصل إلى حل يؤمن مصالح جميع من يهمهم الأمر"
06/ تجسيد الوعد على أرض الواقع:
بعد مؤتمر سان ريمو بإيطاليا في 25 أفريل وتحت غطاء عصبة الأمم فرض الانتداب البريطاني على فلسطين ، وأعتبرت فلسطين مستعمرة بريطانية يخضع مندوبها السامي لوزير المستعمرات ( ونستون تشرشل ) ، فكانت بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور في 02/11/1917 قد شرعت في تطبيقه منذ إنتدابها على فلسطين ، وقد قامت بجملة من الخطوات من أجل تجسيد هذا الوعد على ارض الواقع ومن بين هذه الخطوات:
-تعيين هربرت صمويل كمندوب سامي لبريطانيا في فلسطين في جويلية 1920.
-إنشاء الوكالة اليهودية ( حاييم وايزمان) عام 1920 التي شجعت هجرة اليهود إلى فلسطين وبناء المستوطنات والمدارس والجامعات العبرية.
-إهتمام الإنتداب بتسهيل وتنشيط الهجرات اليهودية إلى فلسطين.
-تنشيط الإستثمار اليهودي في فلسطين وإدخال اليهود للعمل في كافة المؤسسات المدنية والعسكرية.
-إنشاء الجامعة العبرية عام 1924.
-أصبحت القدس مقرا لكل من اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي.
الخاتمة:
إن المواجهات التي تجري على ارض فلسطين طوال سنوات الانتفاضة وبالرغم من فارق القوة، وغياب العالم عن الجرائم الصهيونية اليومية، إنما هي التأكيد على أن الوعد الذي صدر قبل 86 عاماً لن يحقق النجاح المأمول، وسيبقى الكيان اليهودي وجوداً غريباً غير قابل للحياة المديدة، لأنه أقيم خارج الحياة نفسها بل وخارج التاريخ والجغرافيا والشرائع والقوانين. ان كياناً عنصرياً دخيلاً يرفض الانصياع للشرعية الدولية ولا يقرها أو يوافق على قراراتها، ويستلهم من الأساطير مادة بقائه، ولا يمكن أن يعيش إلا على الدم والدمار والعدوان والإرهاب، مآله الزوال ولو بعد حين، حتى ولو امتطى صهوة القوة واحتمى بجبروت أعتى دولة.
لقد بدأ العالم يعي حقيقة هذا الكيان، ويدرك مدى ما يشكله من خطر على العالم وأمنه، رغم آلة الدعاية الصهيونية الهائلة التي تحاول عكس ذلك. وما استطلاع الرأي الذي صدر قبل ايام عن الاتحاد الأوروبي والذي اظهر ان 59 % من الأوروبيين يشعرون بأن “اسرائيل” تهدد السلام العالمي إلا باكورة هذا التحول.. وهو ليس في مصلحة “اسرائيل” ودليل على ان الوعد باطل، وما يقوم على باطل فهو باطل.