الرئيس حسني مبارك يضحك في جنازة وطن
أوسلو في 30 أكتوبر 2004
محاولة لتحريض المصريين على التمرد
الذين ظنوا أن بإمكانهم البدء في كتابة رسائل عزاء في الرئيس، وأعطوا آذانهم لأمواج متدافعة من الشائعات، قرروا اظهار مشاعر الحزن في وقت لاحق لعل اللهَ يُحدثُ بعد ذلك أمرا!
أما الذين تغلغلت حسن النية الطيبة والساذجة في أعماقهم فقد تمنوا أن يعود الرئيس من ميونيخ وقد امتلاْ قلبه بالايمان بالوطن، واستيقظ ضميره، ليكتشف أم الجرائم وهي اغتيال وطن في أقل من ربع قرن، فيقرر بعدما شاهد بأم عينيه ملك الموت، ولمسه، وربما همس في أذنه أن يتركه لبعض الوقت حتى يُفرج عن المعتقلين المعذبين والمظلومين، ويأمر فورا بوقف عمليات امتهان كرامة المصريين، ويركل الفاسدين واللصوص، ويستعين بأكثر أهل البلد كفاءة ونزاهة وشرفا وإيمانا بمصر الغالية.
وعاد الرئيس حسني مبارك، وأخرج لسانه لعزرائيل، وقرر الاستمرار فيما عاهد عليه نفسه.
قوانين طواريء تستمر في احكام قبضتها على أعناق المصريين، حتى لو بررها الفنان الكبير عادل إمام نصير المظلومين على الشاشة الكبيرة، وزيادة في احتقار المصريين باستمرار الأوامر إلى ضباط الشرطة وساديي الأمن بأن لا كرامة لمصري في وطنه في عهد الرئيس، ولا تغيير في الدستور، ولا مشروعات قومية لمحو الأمية والقضاء على الفساد ومنع احتكار ثروات وخيرات الوطن في أيدي قلة ولا إعادة للسلطة إلى أبناء مصر، فكل الطرق تؤدي إلى مبارك الصغير.
عاد الرئيس حسني مبارك وقد زادت شهيته للحكم، وفي أكثر الأوقات ازدراءً واحتقاراً للمصريين لم يُشر من قريب أو من بعيد إلى أنه بلغ السادسة والسبعين، وما بقي من عمره لا يتسع لأكثر من التوبة والاستغفار وتصحيح أخطاء وتلبية رغبات الشعب ونقل السلطة سلميا إلى صناديق الاقتراع بعد استئذان الشعب في اجراء انتخابات مبكرة منطلقا من الاعتراف بأن صحته لن تسمح بالانتظار أكثر مما يتحمل صبرُ مَلك الموت.
شهوة السلطة كالشبق الجنسي وتجمعهما أحيانا مفردةُ الاغتصاب، وهي شهوةٌ لا تكثرت لصحة أو تقدم في العمر أو مرض أو عجز أو فقدان ذاكرة أو حتى انزلاق غضروفي.
وقد يغتصب الزعيم السلطة حتى بعد صعود روحه إلى بارئها عندما يتقدم ابنه بخطىً ثابتة على عتبات القصر، وتنحني الرقاب، ويتنفس السَجّانون الصُعَداء، ويفيض النيلُ على ضفتيه دموعا دافئةً تُغرق الوطن الحزين كله، فالسلطة لن تخرج من الأسرة الشريفة إلى هؤلاء الرعاع، وليجتمع كلُ زعماء المعارضة على بيان مشترك، أو يَجمعوا توقيعات مليونا أو سبعين مليونا من المصريين فسيبصق مجلسُ الشعب عليها، وسيرشح ثلثا الأعضاء من الأميين وأنصاف المتعلمين ومحترفي النفاق والكيف والقروض والتسهيلات الرئيسَ الشابَ جمال مبارك .. أملَ مصر في الفكر الجديد لينام المصريون بعدها ربع قرن فوق قطعة بانجو تكفي لتخدير الشعب كله حتى يكبر مبارك الثالث.
أتخيل السيد الرئيس الآن يضحك حتى تهتز جوانب قصر العروبة من قهقهته على هؤلاء المصريين الساذجين الذين انحازوا لعزرائيل لعلهم يتحررون من قبضة الزعيم، فخذلهم مَلكُ الموت وترك الرئيسَ يعود لانهاء مسرحية صعود ابنه، واحكام قبضة الحزب الحاكم على كل شبر فوق الأرض الطيبة، وترتيب صغير يفرح له الأميون سياسيا، ويسعد به الجاهلون بهموم الوطن، لكنه يضع رجالَ الرئيس الشاب القادم على عتبة الحكم.
عاد الرئيسُ الذي لا يُصَدّق أنَّ العلي القديرَ سيُحاسبه على الأمانة التي أبت السماواتُ والأرضُ والجبالُ أن يحملنها، ووجد أمامه التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية يتحدث باسهاب عن عمليات السحل والتعذيب والتعليق من الأرجل والاغتصاب والحرق لمواطنيه في أقسام الشرطة في طول البلاد وعرضها، وربما قرأ أيضا عن حالات الوفاة تعذيبا في قسم شرطة مدينة نصر، والوايلي، وقصر النيل، وعن مواطنيه محمد سمير أبو الوفا الذي تُوفي في قسم شرطة حدائق القبة، وخالد محمد أحمد الذي أرسله مأمور قسم شرطة عين شمس إلى العالم الآخر لاثبات أن رعايا الرئيس حشرات لا قيمة لها، وأشرف ابراهيم الشرقاوي الذي توفي تحت التعذيب في شرطة قسم بداوي في المنصورة، وأحمد طه حسين خليفة الذي خرج ميتا بعد التحقيق في قسم شرطة قويسنا، وهشام أحمد عبد الغني الذي تلذذ بتعذيبه ضباط ومخبرو شرطة شبراخيت فخرج من أيديهم إلى القبر.
وقبل أن يزيح الرئيس التقرير من أمامه وقعت عيناه على اسم اسماعيل الغمري، فعرف على الفور أنه الرجل الذي صَبَّ على جسده كيروسين، واشعل النار ثم جرى ليحتضن ضابط الشرطة الذي أذاقه الويل وحفر في ذاكرته كل درجات السادية، ولم يتمكن فاحترق جسده، ثم جاءت سيارة الاسعاف لتحمل جثة متفحمة لمواطن مصري يعتبره الرئيس حسني مبارك واحدا من العبيد الذين يحكمهم أو الحشرات التي يدوس عليها.
وأزاح الرئيس التقرير، وقرر أن لا يتوب إلى الله، وأن يستمر في تدمير مصر حتى يتحول المصريون إلى متسولين وفقراء في بلد تم نهبه خلال فترة حكمه دون أن تخترق ذرةُ شجاعة قلوبَ المصريين فيتمردوا على الظلم أو يُجمعوا أمرهم على عصيان مدني أو يتظاهروا بالملايين مطالبين بحقوقهم.
ابتسم الرئيس لأحد مستشاريه وهو يقرأ عن تجمع للأحزاب والقوى الوطنية يطالب باصلاحات جذرية، وبتدويل السلطة، وباحترام الدستور، وبحق الشعب في اختيار رئيسه، وبانتخابات حرة نزيهة، وجال ببصره من نافذة مكتبه في القصر وكأنه يُقسم أنْ لا يأتي اليوم الذي يسمح فيه لهؤلاء الرعاع أن يتولوا شؤونهم بأنفسهم، وأن تكون السلطة والثروة والأرض والكرامة بأيديهم.
ولأن الرئيس يملك خطة محكمة ومتماسكة لنقل السلطة لابنه دون أن تصطدم بكلمة توريث التي يرفضها المصريون، فإن تصعيد الرئيس القادم الشاب داخل الحزب الوطني الحاكم يصبح الضلع الثاني المكمل لترشيح ثلثي أعضاء مجلس الشعب جمال مبارك رئيسا للدولة لتكملة انجازات عصر مبارك العملاق.
المشهد المصري في المؤتمر الثاني للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم يصيب أيَّ عاشق لمصر في مَقتل، فكلُ أفلام الرعب تنزوي أمام بشاعة الصورة لمئات من رجال ونساء الوطن يجلسون في صفوف متراصة كأنهم أصفار لا قيمة لها، ويشاهدون مسرحية سخيفة يلعب فيها صفوت الشريف وكمال الشاذلي ومحمد كمال دور الكومبارس، أمام اللاعب الحقيقي وهو هذا الشاب الذي يحمل سوط والده، ويخدمه عشرات الالاف من رجال الأمن والمستشارين والحماية والمثقفين ورؤساء تحرير الصحف الكبرى.
بدا الأمر كأنه لا يقبل النقاش أو الجدال أو حتى الاشارة همسا إلى وظيفة ذلك الشاب الذي يسرق مفتاح الوطن أمام أعين سبعين مليونا من المصريين، ويفتح اعلام ممدوح البلتاجي أبواب التخدير على مصراعيها، ويغيب الرئيس الكبير يومين متتاليين لكي يفهم المصريون أن السلطة انتقلت بالفعل إلى مبارك الثاني، وليضربوا رؤوسهم في الحائط، أو يبكوا أمام مقار كل لجان حقوق الانسان، أو يخاطبوا نهر النيل العظيم واهب الخلد للحياة، فرقابهم وأرواحهم بين اصبعين من اصابع مبارك الأول ثم نسله من بعده.
عشرون ألف معتقل في سجون مصر وأكثرهم لم يُقَدَّموا للمحاكمة، أو تمت تبرئتهم، أو انتهت مدةُ العقوبة ولا يملكون الآن برهة واحدة يحلمون فيها بالحرية والكرامة، فالرئيس الجديد جاء لحماية تجاوزات والده، ولمسح الذاكرة المصرية، ولمنع أي كشف حساب لجرائم العهد المباركي،
إذا كان الرئيس يضحك في جنازة وطن فنحن جميعا نحمل النعشَ دون أن تبدو على ملامحنا علائمُ غضب أو حزن أو تبرّم أو معارضة أو اتهام للقاتل أو تقديمه للمحاكمة حتى لو كانت صورية أو خيالية.
كلنا شاركنا في اغتيال أم الدنيا، فمنا الصامت، والخائف، والمتردد، والمنتسب للحزب الوطني الحاكم، وضابط الشرطة، والقاضي، والمحامي، والأكاديمي، والمثقف، والمحرر و...
أرادنا السيد الرئيس رقابا محنية، وعيونا لا ترى إلا كفاف خبزها، ونفوسا واهنة، وقلوبا واجفة، فأعطيناه أضعاف ما طلب، وركعنا، وسجدنا، وتزلفنا، وتبرعنا بخوف الفئران، وطاردنا مناهضي السلطة، وتلذذنا بسوط الطغيان.
كلنا أمام قفص الاتهام، من رئيس تحرير أكبر صحيفة قومية مرورا بلواءات في الجيش والمخابرات، وليس انتهاء برجال علم ودين وأعضاء منظمات خيرية واجتماعية وقوى حزبية تنخرط في الطغيان بحجة توجيه نصيحة، وتصمت سنوات طويلة على أكبر عملية استغفال واستحمار واستعباد شعب عربي كبير.
أراد الرئيس استرقاقنا فربطنا أنفسنا في جذع شجرة ورجوناه أن يجلدنا واحدا وراء الآخر، ورفض آلاف من أصحاب مواقع الانترنيت قبول مقالات أو أخبار تفضح الاستبداد وتظهر التجاوزات وتدعو لانقاذ مصر، وأحجمت دور النشر عن الدخول في المعركة من أجل الوطن، وتسابق مئات الآلاف للانضمام تحت لواء الرئيس الشاب القادم في غيبة كاملة عن الوعي، وأفرزت مدرسة الاعلام المصرية العريقة آلافا من الطيبين المطيعين مقطوعي الألسن، المعتقلين في مداد أقلامهم، يبررون أكبر جريمة في تاريخ مصر، ويطلبون من القاتل أن يكون قاضيا، ثم جلادا، ويرجمون الوطنيين، ويسخرون من مباديء الحرية، ويبصقون على حقوق الانسان.
الأمر في غاية البساطة ولا يحتاج لأكثر من عصيان مدني ورفض التعاون مع السلطة المستبدة ولن يستطيع الرئيس وكل زبانية التعذيب أن يحشروا سبعين مليونا من البشر في أقبية سجون مصر ومعتقلاتها.
عصيان مدني ورفض للتعاون لأقل من ثمان وأربعين ساعة يختفي بعدها الرئيس وابنه ويهرب رئيس مجلس الشعب، ويلزم نواب الكيف والقروض والتزوير بيوتهم، وتقوم القوى الوطنية باختيار رئيس مؤقت، ويتولى جيش مصر الحر والوطني مسؤليات الحفاظ على أمن مصر الخارجي والداخلي، وتتحرر قوى الأمن والمخابرات من قبضة الأسرة الحاكمة وتنضم لشعب مصر العظيم، وتتسامى كل الطوائف والأحزاب والجماعات الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها فوق خصوماتها ونزاعاتها وأيديولوجياتها ومشاعر الاستعلاء في كل منها من أجل مصرَ الصابرة الطيبة.
عودةُ الروح للرئيس، واستعدادُ الوطن للسحق ربع قرن جديد تحت قدم الرئيس الشاب هي العبودية المختارة.
الوعي الفردي لا يكفي ولو تمتع به عدة ملايين من أبناء الشعب، وهو لن يحرك الطغيان قيد شعرة، بل قد تكون هناك أقصى درجات الوعي الفردي متزامنة ومنسجمة ومتوائمة مع أقل درجات الوعي الجماعي، أي أن وجود مليون أو عدة ملايين من الحكماء والعقلاء والمتمردين والمثقفين والمناهضين لا يمنع تحويلَ المجتمع إلى قطيع، وهذا يفسر سببَ الصمت المطبق على المجتمع.
قد تقرأ لأمين يسري وعبد الله السناوي وضياء الدين داود وتسجل اسمك في حملة مجدي أحمد حسين لاقالة الرئيس حسني مبارك وتشتعل النار في جوفك بعد الانتهاء من قراءة مقال للدكتور محمد عباس، وتنفعل عندما تتابع تفاصيل التعذيب في أقسام الشرطة، وتضرب كفا بكف استنكارا لنهب المصارف، وتذرف دموعا على ستة ملايين عاطل، وتشعر بدونية أمام رفض الرئيس الغاء قانون الطواريء، وتغضب لاعتبار السلطة إياك حشرة يسحقها حذاء ضابط شرطة أو يغتصبها مخبر في تخشيبة أو يلغيها القصر في صناديق الاستفتاء لأنه أعد صناديق أخرى جاهزة حتى يحصل الرئيس على السبعة والتسعين بالمئة من نتائج الاستفتاء المسمى دوليا سباق الحصان الواحد، ومن احتقار السلطة لك مطلوب أن تراهن على الحصان الواحد ولا تشاهد السباق وتنضم النتيجة المحسومة سلفا إلى أوجاعك وهمومك وعذاباتك.
كل الأوجاع والآلام يتحملها الجسد، ويبررها العقل، ويغفو عنها الفؤاد إلا الالغاء فهو الموت المهين، وتلك لعمري صناعة العبودية التي مارسها معنا السيد الرئيس، وأعتدنا عليها، واستعذبناها، والتصقت بأرواحنا، وكلما ازداد احتقاره وازدراؤه لنا تغلغل الذل في كبرياء الصمت، فأنت المصري قد تمت برمجة حياتك وفق ما أمرت به سلطة القصر، تأكل وتشرب وتنام وتبحث عن عمل، ولا يحق لواحد من السبعين مليونا الترشيح أمام السيد الكبير، وعليك أن تصفق، وتبتسم، وتسخر من نفسك، وتفرج عن كرباتك بنكتة أو تهكم، وتغوص في عَرَقك، وتذهب ذليلا إلى قسم الشرطة إن استدعاك مخبرٌ جلف، ولا ترى شمسَ يوم بدون قانون الطواريء إن جاء يومُ مولدك البائس بعد أكتوبر 1981، وعليك أن تشاهد مليارات من خيرات بلدك تُنهَب أمام عينيك، ويضربك على قفاك ضابط شرطة وصاحب شركة توظيف أموال ومحتال في الأوقاف وصاحب عمارة تقف على مواد مغشوشة وتنتظر سقوطها، وربما تكون واحدا من ستة ملايين عاطل، أو معتقلا من بين عشرين ألفا، أو موظفا لم يزد مرتبه في السنوات العشر الماضية، أو ربَ أسرة تأكل بعد اليوم الثامن من كل شهر من أحلامها ودعائها لرب العزة أن يستر الجميع حتى بداية الشهر القادم.
وإذا اقتربت من الأسياد فقد ثكلتك أمُكَ حتى لو ظننت أن بامكانك السير في الشارع الذي يقيم به علاء مبارك وشاء حظك النحس أن يخرج ابن الرئيس من بيته متجها إلى مكتبه.
ولك أن تتصور وتتخيل حقوقك لو علمت أن كلَ الأحزاب والقوى الوطنية وملايين التوقيعات على عرائض والبيانات والندوات وتقارير منظمات حقوق الانسان لن تجعل ضابطا واحدا في قسم الشرطة يتراجع عن وضع سيجارته في جسدك الضعيف، أو أن يعلن الرئيس مساواة القطيع مع اسرته الشريفة، أو ينهي العمل بقانون الأحكام العرفية أو يكتشف أن عدة آلاف من الأبرياء والمظلومين يفترشون زنزانات باردة قذرة تنفر منها الفئران.
كتبت عشرات المقالات التحريضية، وكان يقرأها الكثيرون ويضمون صوتهم لكلماتي ثم نختفي جميعا في الوعي الفردي لغياب الوعي الجماعي.
وتلقيت عددا كبيرا من الرسائل التي يؤكد أصحابها أنهم يتفقون معي لكن الرئيس سيظل هو رمز الوطن، إنها هي أيضا العبودية المختارة.
أساتذة جامعيون أكاديميون مهمتهم نشر الوعي والعلم والادراك واحترام العقل يرفضون أي مساس بكرامة السيد الرئيس لأنها من كرامة الوطن، وكأن الوطن يرفع هامته عاليا.
ينتشي الزعيم المستبد عندما يختار المواطنون بأنفسهم أغلالهم، ويضعونها في أعناقهم وقد أنفرجت أسارير وجوههم غبطة، ويغضب الكثيرون إن سعيت لتحريرهم، فالعبودية أمن وأمان، وهي ضمان للعودة إلى الأهل، وهي انحياز للسلطة!
هل رأيت شاة تطلب من ذئب أن يذهب بها إلى مكان آمن؟ إن كنت رأيتها فقد شاهدت مأساة الطغيان في معظم بلاد عالمنا الثالث المسكين.
تسمرت عيناي أمام مؤتمر الحزب الوطني الحاكم ولم أصدق أن هذه مصر العظيمة التي تحمل على كاهلها حضارات عدة، ويخرج من رحمها عباقرة في كل المجالات، وتستطيع أن تلحق بركب الحضارة في وقت قياسي، وتملك عبقريتي المكان والزمان، لكنها تقف مرتعشة، خائفة، ترتجف كل مسامات جسدها الواهن أمام رهبة الضعف في مواجهة رجل واحد جعلها تحقق الصفر في كل المجالات، الرياضية والتعليمية والثقافية والسياحية والاعلامية والسياسية، ومنع عنها الهواءَ النقي، وأرسل أبناءها إلى المعتقلات والسجون بدون محاكمة، وأهانها في مقتل عندما رفض رفع الأحكام العرفية لثلاثة وعشرين عاما، وبصق على وجهها وهو يكرر أنه لا يوجد بطن لامرأة مصرية أنجبت مواطنا يستطيع أن يكون نائبه كما في كل دول العالم قاطبة.
المصريون كلهم، أميوهم مع متعلميهم، مثقفوهم مع جاهليهم، أغنياؤهم مع فقرائهم، اشرافهم مع حقرائهم، شرفاؤهم مع مجرميهم، يعلمون مدى عمق اختراق الصفر في المشهد المباركي منذ أن تولى الحكمَ بعد اغتيال الرئيس السادات.
وكل القرائن والدلائل تشهد، وتصرخ، وتنتحب، وتولول، وتلطم وجوهنا لتشير إلى فشل الرئيس حسني مبارك في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعلمية والتعليمية والادارية والسياحية والاعلامية فضلا عن نجاحه في تغيير وجه الحياة الطيبة للمصري الذي لم تعبث بقلبه الطيب كل الغزوات والحروب والأزمات والنكسات، فعبث بها الرئيس ورجاله وأسرته فتغيرت سلوكيات المصريين، وربما لا يصدق المغترب الذي طالت غربته أنه يعود ليحتضن الوطن الطيب الكريم الحنون.
لماذا فقدت الكلمةُ تأثيرَها، وانزوت في ركن قصي الثقافةُ المكتوبةُ، وحلّت محلها لا مبالاة , أو سقوط الحرف العربي قبل أن ترسل به العينُ اشارةً إلى المخ؟
أكتب أحيانا وتوهمني فواجعي في الوطن الحبيب أن صيحتي في كل مرة لن تذهب مع الرياح، ولن تختفي في عمق الوادي أو يكون لها رجع أجوف لصدى مكان أكثر خلاء من كوكب الزهرة، لكن القاريء العربي يعتبر الكتابةَ عمليةً عبثية، ويرى قراءةَ تفاصيل كوارث الوطن أشياءَ تصيبه بملل يحتاج بعده إلى عالم السرور والبهجة والفرفشة ثم يُلقي إلى العناية السماوية تبعة حل مشكلاته.
كيف يمكن التأثير واقناع مواطن أنه مُكَبل اليدين والقدمين، وأن هناك سيدا يدوس على رأسه، وآخر يأخذ اللقمة من أفواه أولاده، وثالث يعلق له الفلكة في سقف المكتب، ورابع يغشه، وخامس يُهرّب أمواله إلى خارج الوطن المغتصب، وسادس يبصق على وجهه من على الشاشة الصغيرة، وسابع يراه حشرة لا تستحق حتى كفنا نظيفا أو حفرة لائقة تحت التراب، وثامن يرفض تماما الاعتراف بأن له حقوقا في بلده، وتاسع يراه عبدا عليه طاعة القصر ما بقي له من عمر، أما العاشر فهو السيد الرئيس وهذا لم يره بعد؟
في عقدين من الزمان نشرتُ عشرات المقالات التي تدور كلها حول أهمية استرداد المصريين حقوقهم التي انتزعها منهم عنوة سيد القصر، وذهب بي الظن إلى أن تحريضا ضد الطغيان قد يؤتي أكله ولو بعد حين، وأنني عندما احذر شخصا طالبا منه أن ينظر خلفه لأن كفا غليظة ستصفع قفاه، فإن رد الفعل الطبيعي والغرائزي والعقلاني والبشري المستند لكرامة أودعها الخالق في خليفته على الأرض ستكون على الفور انتباها وحذرا وتجنبا وغضبا ودفاعا عن النفس ورفضا للمهانة ....
فكانت بعض مقالاتي ( سيدي الرئيس حسني مبارك .. استحلفك بالله أن تستقيل) ( رسالة مفتوحة إلى الرئيس .. دعوة إلى اليأس) و( سيدي الرئيس استحلفك بالله أن تهرب) و( البيان والتبيين في أوجاع مصر وأحزان المصريين) و( .. ولكن الرئيس لا يقرأ ) و ( نعلن هزيمتنا أمام الرئيس مبارك وابنه) و( رسالة مطوية من مبارك الأول إلى مبارك الثاني) و ( رسالة شكر من مبارك الثاني إلى مبارك الأول) و( سيدي الرئيس .. وهل هناك غيرك؟) و( لا .. ليس هناك غيري) و( رسالة مفتوحة إلى أم الدنيا .. ماذا فعل بك هذا الرجل؟) و( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك) و( ولكن عزرائيل لا يزور ميونيخ .. سيدي الرئيس حسني مبارك لا تصدقنا فنحن جبناء ) و عشرات غيرها من المقالات التي قرأها الالاف من المسؤولين الكبار والوزراء والسفراء والمحافظين والمثقفين والاعلاميين وصناع القرار السياسي، وقرأها الرئيس وابنه ومحررو الصحف القومية والمعارضة، لكنها لم تحرك شعرة واحدة في رأس أصغر مسؤول في طول البلاد وعرضها، وقتلها بالصمت زملائي في بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة، وكان لسان حال من يقرأ مقالاتي كأني اسمعه قادما من مكان بعيد يرجوني أن أتركه في سلام فالعبودية اختيار واضح وصريح، ولقمة العيش لا تأتي إلا لمن يغمض عينيه ويسد أذنيه، وأن العناية الالهية تمهل ولا تهمل فلا حاجة للعجلة والاسراع والتمرد والرفض وصداع الرأس من جراء ادعاء الشجاعة والتطاول على أسيادنا.
لماذا لا يغتصبوننا، ويسحقون هاماتنا، ويسرقون خبز أولادنا، ويلقون إلينا بالفتات من خيرات بلد نهب رجال العهد المباركي أكثرها؟
لماذا تحرضوننا على رفع الرؤوس، ومقاطعة السلطة، والاصرار على حقوقنا، واستبدال السيد الرئيس الذي نعرف أنه أوصل مصر إلى الصفر في كل المجالات لكنه يظل رمز عزتنا واستقرارنا فليفعل ما يشاء، وليُعدّ ابنه لاستحمارنا واستغفالنا عدة عقود قادمة، وليترك رؤوس الفساد العفن تنخر في عظامنا، ولينهب رجالٌ احتفظ بهم سنواتً طويلة كل مصارف الدولة، ويحتكروا الاستيراد، ويرفعوا أسعار كل شيء إلا قيمة المصري، وليمت منا مئة أو مئتان أو أكثر أو أقل في كل عام تحت أحذية ضباط الشرطة أو اختناقا في سيارة الترحيلات أو تحت باطن الأرض في معتقلات يقوم عليها تلاميذ إبليس.
لماذا لا تتركوننا في سلام يعيش ثلاثة ملايين منا في المقابر، وتنهش البلهارسيا أكباد خمسة أضعافهم، وندفن دموعنا في غرف النوم بعيدا عن أعين السلطة، ويغرق منا المئات في كل عام وهم يهربون في زوارق متهالكة اتفق صاحبها مع ملك الموت أن يسلمه أرواحهم الرخيصة فهم مصريون في عهد الرئيس حسني مبارك؟
لماذا تذكروننا بسوط يلهب ظهورنا، وحقوق لم نسمع بها من قبل، وواجبات على الرئيس لم تدر بذهن أكثرنا تفاؤلا، ثم تقولون كذبا وبهتانا بأن السيد الرئيس موظف كبير لدى الشعب أو خادم تنحصر مهمته في خدمة شعب مصر، ولا تعرفون أو تفهمون أو تستوعبون أننا جميعا مِلكٌ له ولابنه ولأسرته الشريفة، يفعلون بنا ما يشاؤون؟
لماذا تريدون رفعَ الأحكام العرفية، وتعيينَ نائب للرئيس، ومنح المصريين حقوقا متساوية مع الأسياد، ومحاسبة رجال الرئيس على جرائم الفساد والنهب والهبر والاهمال والفشل المتعمد وغيرها؟
لماذا تعكرون علينا صفو لذة الاسترقاق، ومتعة الخوف، وغبطة السعادة في كنف السلطة، وسلام الجهل بحقوقنا المشروعة في أن نكون كلنا أسيادا في الوطن؟
هو أسوأ عهود مصر قاطبة، وأن أقلنا علما وثقافة ومعرفة يستطيع أن يحصي آلاف الجرائم والتجاوزات التي حدثت في ثلاثة وعشرين عاما بمعرفة ورضا وفرحة وموافقة السيد الرئيس ، لكننا نرفض أن يوقظنا أحد ويذهب بنا إلى المجهول، ونرفض أيضا عودة الوعي فالسماء وعدتنا بنصر مبين، ولنا الجنة عندما نصبر على الذل والهوان والفقر والاضطهادات والعذاب، وعلماؤنا ومثقفونا وصفوة أبناء مصر يطلبون منا أن نطيع ولاة أمورنا.
ماذا تريدون منا؟ أن نعترض على أن السلطة كلها بيد الرئيس؟ أن نرفع أعيننا أمامه ونطالبه بحقوقنا وكرامتنا؟ أن نحد من تعسفه بنا واحتقاره إيانا وازدرائه لمطالبنا؟ أن نضحي بأمن الاستكانة، وحلاوة الخنوع ثم نلهث وراء أوهام وخيالات ووعود لن تتحقق؟
لقد رأيتم بأم أعينكم فخامة الرئيس الشاب جمال مبارك يضع أصابعه في عيوننا جميعا ويقف رئيسا قادما رغم أنف أي معترض أو متبجح على أسياده، والتهبت الأكف بالتصفيق له، وخضعت الرؤوس، وأهداه ممدوح البلتاجي كل القنوات التلفزيونية لثلاثة أيام، وجاء والده في اليوم الثالث ليفهم الجميع أن السلطة انتقلت فعليا إلى مبارك الثاني، وأن جرائم الرئيس في حق شعبه تم مسحها نهائيا من ذاكرة الشعب كما يقوم العقيد من داخل خيمته بمسح ذاكرة الشعب الليبي.
ماذا تريدون منا؟ عصيان مدني؟ رفض للتعاون؟ احتجاج سلمي في طول أرض الكنانة وعرضها؟ اجماع ملاييني لقوى الحرية والكرامة من أجل فرض كلمة الشعب؟
معذرة أيها السادة فالوقت متأخر، وكلنا مجرمون مشتركون في اغتيال الوطن.
لا فائدة فمن يقرأ تلك الكلمات ربما يصفق لها، أو ينسخ منها عدة وريقات يرسلها لمن يهمه الأمر، لكنها ستنتهي إلى عالم النسيان.
وسيقرأها الكثيرون وبعد دقائق معدودة تتبخر آثارها في هموم جديدة أو صداع في الرأس أو تحضير العشاء أو مشاهدة عمليات انتحارية أو متابعة حفل نانسي عجرم في الأردن أو انتظار الحلقة السابعة من مسلسل سخيف أو مناقشة قضية الحجاب في فرنسا أو الحديث عن الوجوه الجديدة في ثلث حكومة أحمد نظيف.
القوى الوطنية كلها في مصر وقعت في فخ نصبه لها السيد الرئيس عندما طالبته باصلاحات عاجلة وتغيير للدستور ورفع الأحكام العرفية واختيار الأكفاء والموافقة على ترشيح أكثر من شخص في انتخابات الرئاسة، وتناست كل القوى أن الرئيس هو الحَكَمُ والخَصْمُ والجلاّد، وهو عشماوي الذي يغطي رؤوسنا قبل الاعدام، وهو السيّاف الذي يقطعها أو يختار قطع ألستنا إن تجرأنا وطالبناه بالرحيل أو حاكمناه أو عزلناه.
شكرا للذين سيتذكرون كلماتي لأكثر من خمس دقائق، وهنيئا للرئيس الشاب باسترقاقنا خدما تحت حذائه، فهذا حق له وواجب علينا.
المصدر واحد مصري طبعا
http://www.ebnmasr.net/forum/t49114.html