لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ | | إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ |
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتـِهِ | | على الْمُقيمينَ في الأَوطــانِ والسَّكَنِ |
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَنـي | | وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والمـوتُ يَطلُبُنـي |
وَلي بَقايــا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها | | الله يَعْلَمُهــا في السِّرِ والعَلَنِ |
مـَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني | | وقَدْ تَمـادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي |
تَمُرُّ سـاعـاتُ أَيّـَامي بِلا نَدَمٍ | | ولا بُكاءٍ وَلاخَـوْفٍ ولا حـَزَنِ |
أَنَـا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً | | عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنـي |
يَـا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ | | يَـا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني |
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُـهـا | | وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيـرِ وَالحَزَنِ |
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحــَاً | | عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُنــي |
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَـيْ يُعالِجَنـي | | وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هـذا اليـومَ يَنْفَعُني |
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُـها | | مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ |
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها | | وصـَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني |
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا | | بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ |
وَقـامَ مَنْ كانَ حِبَّ لنّاسِ في عَجَلٍ | | نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتينـي يُغَسِّلُنــي |
وَقــالَ يـا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً | | حُراً أَرِيباً لَبِيبـاً عَارِفـاً فَطِنِ |
فَجــاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني | | مِنَ الثِّيــابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني |
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحـاً | | وَصـَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني |
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني | | غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ |
وَأَلْبَسُوني ثِيابـاً لا كِمامَ لهـا | | وَصارَ زَادي حَنُوطِي حيـنَ حَنَّطَني |
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيـا فَوا أَسَفاً | | عَلى رَحِيـلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُنـي |
وَحَمَّلوني على الأْكتـافِ أَربَعَةٌ | | مِنَ الرِّجـالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني |
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا | | خَلْفَ الإِمـَامِ فَصَلَّى ثـمّ وَدَّعَني |
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لهـا | | ولا سُجـودَ لَعَلَّ اللـهَ يَرْحَمُني |
وَأَنْزَلوني إلـى قَبري على مَهَلٍ | | وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهـم يُلَحِّدُنـي |
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني | | وَأَسْكَبَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني |
فَقامَ مُحتَرِمــاً بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً | | وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفـارَقَني |
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا | | حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ |
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هنــاك ولا | | أَبٌ شَفـيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُنــي |
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يــا أَسَفـاً | | عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُنـي |
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ | | مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني |
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ مـا أَقولُ لهم | | قَدْ هــَالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني |
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهـِمُ | | مَـالِي سِوَاكَ إِلهـي مَنْ يُخَلِّصُنِي |
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يــا أَمَلي | | فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهــَنِ |
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا | | وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني |
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لهـا بَدَلي | | وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّكَـنِ |
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَهــا | | وَصَارَ مَـالي لهم حـِلاً بِلا ثَمَنِ |
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها | | وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ |
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها | | هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ |
خُذِ القَنـَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها | | لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ |
يَـا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً | | يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ |
يـَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي | | فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني |
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً | | عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ |
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختـارِ سَيِّدِنـا | | مَا وَصَّـا البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ |
والحمدُ لله مُمْسِينَـا وَمُصْبِحِنَا | | بِالخَيْرِ والعَفْوْ والإِحْســانِ وَالمِنَنِ |