ليس كتاب الموطأ كتاب فقه فحسب كما زعمه ((برو كلمان))(1)، وإنما هو كتاب
حديث وفقه معا، وما ذهب إليه أحمد أمين من أن الموطأ كتاب فقه وقد ملىء
حديثا(2) بعيد عن الصواب، فهو يعتقد أن مالكا لم يكن من غرضه أن يجمع فيه
الأحاديث المعروفة في عهده، والتي ضحت عنده، وإنما غرضه الإتيان بالتشريع
مستدلا بالحديث، ولعل ما دفع أحمد أمين لأن يذهب هذا المذهب، هو ما تضمنه
كتاب الموطأ من فتاوى مالك الشخصية وآرائه في بعض المسائل،
وهذا لا ينهض دليلا لرأيه، ولا يقوم حجة على صحة دعواه...
وقد
كان الموطأ في بدايته-يضم بين دفتيه قدرا هائلا من الأحاديث، إلا أن
الإمام ظل يختصره حتى أصبح لا يتجاوز ألفا وتسعمائة وخمسا وخمسين حديثا على
رواية يحيى الليثي، وألفا وثمانية على رواية محمد بن الحسن الشيباني وقد
اشتهر كتاب الموطأ شهرة صاحبه، حتى غطى جميع ديار الإسلام، اذ لم يكد يمر
زمن قصير على تأليفه، حتى شاع في الناس وفشا، ووقع الإقبال عليه من طرف
الجميع، وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم، ولم يزل العلماء يخرجون حديثه،
ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن لرجاله.
ويعد كتاب الموطأ أول مؤلف في تاريخ الإسلام تناقلته الأجيال منذ تأليفه
إلى الآن، ثبتت نسبته الى صاحبه، إذ كان الناس قديما يعتمدون على الحفظ
والسماع، لا على المؤلفات، وهذا لا يعني أن الإمام مالكا سبق غيره إلى
التأليف فقد كانت هناك مؤلفات صنفت قبله، إلا أنها لم تصلنا، أو وصلت ولكن
نسبتها إلى أصحابها مشكوك فيها، وتشير الروايات التاريخية إلى أن التدوين بمعناه الضيق، قد بدأ في القرن الأول، ثم نما شيئا فشيئا في أوائل القرن الثاني، ومعظم هذه التأليف تتعلق بالحديث، أو بأجزاء يسيره من أبواب فقه العبادات ...
يقول الحافظ ابن حجر :(إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر
الصحابة وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع، ولا مرتبة لأمرين:
أ - أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، ثبت في صحيح مسلم خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
ب- سعة حفظهم وسيلان أذانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة،
ثم حدث في آخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لما انتشر
العلماء في الأمصار، ولما كثر البدع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن ابي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ، وتوخى فيه القوى من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم) (3).
سبب تسمية الكتاب بالموطأ
اختلف العلماء في سبب تسميته بالموطأ، فيروى في سبب تسميته،
ما ذكره أبو عبد الله محمد بن ابراهيم الأصفهاني قال: قلت لأبي حاتم
الرازي موطأ مالك لم سمي الموطأ ؟ فقال :شيء صنعه ووطأه للناس حتى قيل موطأ
مالك، وقيل إن سبب التسمية آت من قول مالك نفسه عندما قال :عرضت هذا على
سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطؤوني عيله فسميته الموطأ(4).
ويقال أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضم هذا العلم يا أبا عبد الله،
ودونه كتبا وتجنب فيه تشديدات عبد الله بن عمر، ورخص إبن عباس، وشواذ إبن
مسعود واقصد اوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة (5)، وفي بعض
الروايات ((ألف للناس كتابا ووطئه لهم توطئه))(6) وقد لبث الإمام مالك في
تأليفه أربعين سنة يهذبه وينقحه كما يستفاد من قول صفوان بن عمر بن عبد
الواحد-صاحب الاوزاعي - :عرضنا على مالك كتاب الموطأ في أربعين سنة أخذتموه
في أربعين يوما، ما أقل ما تفهمون فيه (7).
ويقال إن لفظة الموطأ هي من ابتكار مالك، إذ من ألف قبله كان يسمي كتبه بالمصنف، أو المؤلف، أو الجامع،
أو المجموع، وقيل إن أول من سمي بالموطأ قبل مالك، عبد العزيز بن عبد الله
بن أبي سلمة الماجشون، ألفه كلاما بغير حديث، فلما رآه مالك قال :ما أحسن
ما عمل ! ولو كنت أنا لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام (8)، ثم عزم على
تصنيف الموطأ،
فصنفه وتبعه آخرون في تصنيفهم الموطآت(9)، وقد هم ((المنصور)) أن يختار
نظاما قضائيا للدولة العباسية، إلا أن مالكا-رضي الله عنه-لم يرض بذلك
قائلا :ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا
في الأمصار وكل منهم مصيب(10).
عدد أحاديث الموطأ
وقد كان الموطأ يضم بين دفتيه في بداية الأمر، قدرا مهما من الأحاديث لم
يتفق عليه، ففي رواية عتيق الزبير عشرة آلاف حديث(11) وفي رواية الغافي
ستمائة وستون حديثا(12)، وفي رواية الأبهري ألف وسبعمائة وعشرون
حديثا(13)،وفي رواية رابعة، أربعة آلاف حديث، وقد نقل الزرقاني عن أبي بكر
الأبهري،جملة
ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة
والتابعين :ألف وسبعمائة وعشرون حديثا، المسند منها ستمائة حديثا، والموقوف
ستمائة وثلاثة عشرة ومن قول التابعين مائتان وخمس وثمانون (14)،إلا أن
الإمام ظل يهذبه وينقحه ويسقط منه حتى قال ابن القطان :كان علم الناس في
زيادة وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط عمله كله من كثرة التحري
(15).
منهجية مالك في تأليف الموطأ
لقد تولى الإمام مالك توضيح منهجية في تأليف كتاب الموطأ ’ و بيان ما
اشتمل عليه من الأحاديث و الأثار قائلا: "فيه حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، و قول الصحابة، والتابعين، ورأي، وقد تكلمت برأي وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم اخرج من جملتهم إلى غيره" (16)
وسئل مالك عن تعابيره في الموطأ من مثل :" الأمر المجتمع عليه "، "والأمر
عندنا أو ببلدنا "’" أو أدركت أهل العلم "’ أو" سمعت بعض أهل العلم" فأجاب:
أما أكثر ما في الكتب فرأى، فلعمري ما هو برأي ’ ولكن سماع من غير واحد من
أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخدت عنهم، وهم الذين كانوا
يتقون الله، فكثرة علي فقلت: " رأي" وذلك "رأي " إذا كان رأيهم مثل رأي
الصحابة أدركتهم أنا على طلك ’ فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا
’ وما كان رأي فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة ’ وما كان فيه الأمر
المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه ’
وما قلت الأمر عندنا فهو ما عمل الناس به عندنا و جرت به الأحكام، و عرفه الجاهل والعالم ’ و كذلك ما قلت فيه ببلدنا ’ وما قلت فيه بعض أهل العلم،
فهو شيء استحسنته من قول فيه العلماء ’ وأما ما لم أسمع منه ’ حتى لا يخرج
عن مذهب أهل المدينة وآرائهم، و إن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلى
بعد الاجتهاد مع السنة ’ وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، و الأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأئمة الراشدين مع من لقيت ’ فطلك رأيهم ما خرجت إلى غيرهم" (17)
وقد اعتمد مالك في بناء موطئه على الروايات المرفوعة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم موصولة أو مرسلة و على قضايا عمر بن الخطاب ’ وفتاوى عبد الله بن
عمر،ثم
على أقوال الفقهاء السبعة (18) وفقهاء المدينة ’جاعلا أحاديث زيد بن أسلم
أواخر الأبواب (19) ’ ولما سئل عن حكمة ذلك قال : إنها كالسراج تضيء لما
قبلها (20) وقد بوبه عل بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم و
معاملاتهم ’ و آدابهم ’ من معرفة العمل فيها الذي يكون جاريا بهم على السنن
المرضى شرعا (21) ’ وجعل بابا جامعا في آخره ’ ذكر فيه مالا يدخل في باب
خاص من الأبواب المخصصة بفقه بعض الأعمال قال الحافظ ابن عبد البر: في آخر
كتابه "الكافي" عند ذكر أسانيده :" ومالك رحمه الله ’ هو أول من عنون
كتابا من كتب مصنفاته بكتاب الجامع " (22).
وقد بين القاضي أبو بكر بن العربي أن مالكا بوب الموطأ بحسب ما يراه من
الحكم ’ فإذا كان الجواز قال: ما جاء في جواز كذا ’ و ذا كان ممنوعا قال:
تحريم كذا ’ وإذا أرادا إخراج ما روى في الباب مع احتمال الأمرين ’ أرسل
القول كقوله: باب الاستمطار في النجوم.
وقد احتوى الموطأ على أقسام
1 أحاديث متصلة
2 أحاديث مرسلة
3 أحاديث منقطعة
4 أحاديث موقوفة
5 بلاغات
6 أقوال الصحابة و التابعين
7 ما استنبطه الأحكام من الفقه المستند إلى العمل أو إلى القياس، أو إلى قواعد الشريعة.
ولم يختلف أئمة الأثر ونقد الرجال ’ أن ما يحتويه من القسم الأول الثاني ’
وهي الأحاديث المرسلة ’ التي يرسلها التابعون عن النبي صلى الله عليه وسلم
(23) ’ وقد نص إبن عبد البر ’ أن مرسل الثقة تجب به الحجة ’ ويلزم به
العمل ’ كما تجب بالمسند سواء ’ وقال سفيان: إذا قال مالك: بلغني فهو إسناد
قوى ’ وذكر الزرقاني أن بلاغات مالك ليس من الضعيف ’ لأنه تتبع كله فوجد
مسندا من غير طريقة ’ وقد صنف إ بن عبد البر في وصل ما في الموطأ من المرسل
المنقطع والمعضل ’ وأثبت أن جميع ما في الموطأ من قول مالك "بلغني" ومن
قوله الثقة عندي مما لم يسنده ’ أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق
مالك ماعدا أربعة قيل إنها لا تعرف، وهي التي أعتنى بإسنادها ابن الصلاح (24) وابن مرزوق ’ وقد قال يحيى بن سعيد: مرسلات مالك أحب إلي (25).