يقول ابن القيم عن حال العباد في هذه الولادة : فإن أرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد فشاهدت حقائق أخر وأمورا لم يكن لها بها شعور قبله قال تعالى الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وقال هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين
والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة قلب لم يولد ولم يأن له أنواع القلوب بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب وأنست بقربه الأرواح وذكرت رؤيته بالله فاطمأن بالله وسكن إليه وعكف بهمته عليه وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى لا يقر بشيء غير الله ولا يسكن إلى شيء سواه ولا يطمئن بغيره يجد من كل شيء سوى الله عوضا ومحبته قوته لا يجد من الله عوضا أبدا فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه ومحبته قوته ومعرفته أنيسه عدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا فهذان قلبان متباينان غاية التباين وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء قد أصبح على فضاء التجريد وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربا إلى من السعادة كلها بقربه والحظ كل الحظ في طاعته وحبه وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الداعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات وبقي عليه مفاوز وفلوات والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقق به ظاهرا وباطنا وسلم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده فهو فقير حقيقي ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر
واعلم أنه يحسن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ولا يأمن من إجابة الداعي فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد
فصاحب هذه الدرجة (اي صاحب القلب الذي خرج الى فضاء التوحيد)متوسط بين درجتي الداخل بكليته في الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واتخذها وطنا وجعلها له سكنا وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها وارتقى إلى ما يسر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو في البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحا ومساء فإن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها فهكذا هذا الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث هي ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى فلا بد من الولادة مرتين