دخل على العيادة وألقى بجسده على أقرب كرسي كأن أحدهم يلاحقه ثم قال بصعوبة وهو يحاول السيطرة على أنفاسه :
- هل عندك علاج للصداع الحمساوي أو للمغص الفتحاوي ؟
استغربت مثلكم تماماً من هذا الحديث ، ولكي أتأكد بأن زبوني ليس بحاجة إلى
طبيب نفسي ، أطلت النظر إليه عسى أن اكتشف فيه شيئا حتى قال كأنه ينفي عن
نفسه تهمة :
- أنا لست مجنونا يا دكتور .. ولكنني في الطريق إلى ذلك إن لم تدلني على دواء ..
- هل أفهم من كلامك بأنك تعاني من صداع حمساوي ومغص فتحاوي في آن واحد ؟!
- ليس الأمر كذلك إطلاقاً .. فأنا والحمد لله خارج هذه المعادلة كلها وليس
لي نصيب فيها .. ولكن لدي أخوين أحدهما مؤيد لحماس والثاني لفتح وكلاهما
لم يتركا شيئا إلا واستخدماه في خلافهما الذي لا ينتهي أبدا .. حتى
الألوان يا دكتور لم تسلم من التصنيف السياسي عندهما .. فالفتحاوي مجرد أن
يأت ذكر اسم حماس تنتابه حالة من الصداع تتطور بسرعة إلى صرع فيخرج إلى
الشوارع يصرخ كالمجذوب : شيعة شعية .. أما إذا ذكرت أمام الحمساوي اسم فتح
، يُصاب بحالة مغص غالباً ما تنتهي بقيء ثم يهذي بكلام كثير لا تفهم منه
إلا خونة لحديين ! .. لكن ليت الأمور توقفت عند هذا الحد .. فكلاهما
يعرفان أنني لا انتمي إلى هذه أو تلك ، وأن موقفي المعلن دوماً هو الحياد
الذي لا يناصر هذا على ذاك ولا ذاك على هذا .. لكنهما في الفترة الأخيرة
لم يعجبهما هذا الموقف ، وكل واحد منهما يريد مني إما أن أقف في صفه أو
أكون ضده .. وبما إنني لا أريد الانحياز إلى أحدهما ، أصبحا يظنان أنني
ضدهما ، ودائماً يحاولا إشراكي في خلافاتهما رغم أنفي بوضعي حكماً بينهما
حتى مللت وضقت ذرعاً بهما وبخلافاتهما وبحماس وفتح وكل ما يمت للحركتين
بصلة ،وها أنا أفكر جدياً بترك المنزل لهما كي أعيش وحدي ..
أتدرون ؟ .. أشفقت حقاً على صديقنا الذي رغم إيثاره للسلامة إلا أن
المشاكل لا حقته رغماً عنه حتى وجد نفسه غارقاً بها دون أن يكون طرفاً
فيها .. أو على الأقل ، هكذا يعتقد ! .. أحياناً يكون الحياد الزائد عن
حده سبباً رئيسياً في مرض خطير يجعل المرء ميتاً وهو حي .. لكن من الصعب
أن تقنع محايدا صميماً بأن حياده حاله مرضية لأنه يستفيد من هذا الحياد
ليظهر نفسه بأنه الأفضل دوماً ، كما أنه بهذا يوفر على نفسه الكثير من
المشاكل التي لا يريد أن يكون أحد أطرافها .. ما رأيكم لو نجرب إقناعه ؟..
- سيدي الكريم .. هل لي أن أسألك لأي الفصائل تنتمي أنت ؟..
- ليس من حقك أن تسألني هذا السؤال لأنني لا أعاني من أي مرض سياسي .. فالأمور واضحة عندي وأعرف طريقي جيداً ..
- وما هو الواضح عندك يا ترى ؟
- الجهة التي انتمى إليها لا تتطلع إلى مناصب وتنأى بنفسها الدخول في صراع
الكراسي الذي يدور بين حماس وفتح .. فنحن نعرف جيداً أن صراعنا مع اليهود
صراع وجود ، لأن هذه الأرض لا تقبل القسمة على شعبين
- ومن هو الشعب الذي يستحقها في رأيك ؟
- هل هذا سؤال يسأله فلسطيني ؟! .. بالطبع الشعب الفلسطيني صاحب الأرض ..
- أها .. الشعب الفلسطيني !! .. تقصد ذلك الشعب المريض الذي تريد ترك
البلد له .. على اعتبار أنك تفكر في ترك المنزل بسبب صراع أخويك ؟ ..
- أفهم ما ترمي إليه .. لكن ليس كل الشعب حماس وفتح ..
- صحيح .. لكن معظمه كذلك .. ألا يمثل أنصار الحركتين أكثر من 80% من الشعب الفلسطيني ..
صمت وكأنه يفكر في أمر ما ، ثم همس حائرا ..
- لا أعرف ما الذي تريد الوصول إليه .. جئت في أمر وأدخلتني في أمر أخر .. هل تريد القول بأن شعبنا مريض وقاصر لا يستحق أرضه ؟ ..
- لست أنا الذي أقول ذلك .. أنت قلته ! .. فمعنى حديثك عن وضوح الهدف يدل
على أن نسبة من يمتلكون هذا الوضوح أقلية في الشعب الفلسطيني بينما
الأغلبية تنحاز لفئتين تتصارع على سلطة و مناصب وكراسي !!
بدت نظراته تزداد عدوانية تجاهي وكأنني أوشك على تدنيس حياده المقدس ، لكنه تمالك نفسه ثم قال :
- نحن نحاول قدر الإمكان الجمع بينهما على الهدف الحقيقي والتوحد ضد العدو
ومقاومة عدوانه .. هذا أيضاً جزء من نضالنا ولا يمكننا القيام بهذا الدور
إلا إذا التزمنا الحياد بين الجهتين المتصارعتين اللتان أساءتا للشعب
الفلسطيني بهذا الخلاف العقيم ..
- أليس من ضمن أهداف فصيلك استثمار هذا الحياد لصالحها ؟ .. أو بصراحة أكبر .. أليس في برنامجكم الاستفادة من هذا الصراع ؟..
- هذا اتهام لا أقبله .. الذي يحدث أنهما يريدان استثمار حيادنا لصالح
صراعهما ، وعندما يفشلون ، يتهموننا بالانحياز ، أو الهروب ، أو بتهم أخرى
من تلك التي يتبادلونها فيما بينهم ..
- وما أدراك .. قد يكونوا على حق في اتهامهم لكم ..!!
- عفواً .. ماذا قلت ؟؟!
- أقول أنكم قد لا تكونوا أبرياء مما ينسب إليكم من تهم على لسان الفريقين ..
- هذا افتراء لا أساس له من الصحة .. نحن لا مصلحة لنا في السلطة التي
يتصارعان من أجلها لأنها سلطة مرتبطة بالاحتلال ونحن نريد الخلاص من هذا
الاحتلال وليس الارتباط به بسلطة مرسومة على الورق يلوح بها في الهواء ثم
يتصارعون من أجل الحصول عليها .. هم يتقاتلون من أجل الحصول على هذا
الكرسي الوهمي .. هل تشك أن يكون لعاقل ناقة أو جمل في هذا الباطل كله ..
- نعم أشك .. حين تبسط الأمر بهذا الشكل وتجرده من سببه الرئيسي و كافة
تفاصيله لتقنع نفسك بأن الفريقين يتصارعان على الوهم ، فهذا هروب من تحمل
المسؤولية كاملة والاكتفاء بالتمسك بجزء منها فقط .. حين تستخف بأهمية
إدارة شؤون الناس وحاجتهم لمن ينظم لهم حياتهم ويوفر لهم الحماية بحجة
أنها سلطة لها ارتباط بالاحتلال أو مناصب دنيوية لا تتفق مع نضالكم ، فهذا
يعني أنك تُلقي بشؤون الناس من أمن وإدارة حياة في يد الاحتلال الذي يريد
اجتثاثهم من الأرض ..
- ما رأيك بأننا أيضاً سبب هذا الصراع وأن كلا الفريقين ضحية مؤامرة قمنا بتدبيرها من أجل الإيقاع بهما لتخلو لنا الساحة ؟! ..
- كل شيء جائز .. ها أنت اعترفت بما لم أسمع به من قبل ..!!
نهض واقفاً ليهم بالمغادرة وهو يقول غاضباً :
- الخطأ خطئي أنا .. ما كان عليّ المجيء إلى هنا والاستماع لهذا الهراء ..
لا حول ولا قوة إلا بالله .. جئتك لتوجد لي مخرجا من مشكلة أخويّ ، وتريد
إقناعي بأنني السبب الرئيسي فيها ..!
- هل تعلم أين تقف الآن ؟..!
- نعم أعرف إنني في عيادتك السياسية وسأغادرها الآن حتى ..
- للأسف الشديد أنت تقف في المنطقة الرمادية ، ويبدو أنك وقفت فيها فترة طويلة حتى ظهرت عليك أعراض الرمادشن ..
- الرما .. ماذا ؟ ..
- رمادشن بكسر الدال والشين .. هذا المرض يُصيب الذين يكثرون الوقوف في
المنطقة الرمادية حيث لا يرون إلا اللون الرمادي فقط رغم تعدد الألوان
ودرجاتها .. عندما تُصاب بهذا المرض لا يمكنك أن تلاحظ الفرق الواضح بين
اللون الأبيض واللون الأسود .. لا تستطيع أن تحدد إن كان الوقت شروقاً
يعقبه ضوء أم غروباً سيعقبه ظلام .. لن يلفت نظرك ضوء الشمعة لأنك تراه
رمادياً ، ولكنك ستشاهد بوضوح الخيط الأسود الرفيع الذي يحدثه ظلها
وستتهمها بأنها سبباً فيه .. نعم ، لن تميز بين الظل والظلام ولا بين ضوء
الشمس و ضوء القمر .. فالأضواء كلها تتساوى عندك لأنك ببساطة تراها رمادية
اللون ..
- هذه فلسفة ليست في محلها .. أخبرتك من قبل أن الرؤيا عندي واضحة وأرى الألوان كما هي ..
- حقاً ؟! .. دعنا نجرب هذا الاختبار .. لو أنك خرجت من هنا ووجدت فريقين
من الرجال الأقوياء يتصارعون على فتاة وكل فريق يريد الاستحواذ بها بينما
هي خائفة ومرعوبة لا حول لها ولا قوة .. ماذا ستفعل ؟
- بالتأكيد لن استطيع فعل شيء عنيف لإنقاذها لأن الجهتين سيتحولان ضدي ..
ثم ما الذي جعلها تخرج في مثل هذا الوقت من الليل .. صحيح هي تتحمل جانب
مما يحدث لها ، لكن هذا لا يعني أن عليُ الوقوف موقف المتفرج وكأنني لم
أشاهد شيئا ، بل سأبذل ما استطعت لأنقذ الفتاة بنصح الفريقين وأذكرهم بأن
ما يقومون به ليس من الأخلاق في شيء أو بحرمته إن كانوا يؤمنون بالله
ويخشون منه ..