د. فوزية الدريع
منذ بداية زمن الحكمة والكل يخبرنا بأن نُقلِّل الكلام ونُكثر السَّمع، أي
أن نقفل الفَم ونفتح الأذن. وهذه الفلسفة خُلاصتها الإعتقاد بأنّ إن كان
الإنسان قليل الكلام، كثير السمع، يكون إحتمال أن يكشف نفسه وأسراره ونقاط
ضعفه أقل، وحين يُحسن الإستماع يمسك خيوط شخصية مَن أمامه، ويعرف معلومات
كثيرة عنه.
والحقيقة أنّ الصمت وقلّة الكلام مسألة صعبة، تتطلّب تدريباً. لذا ارتبطت
بالحكمة. لكن العلم الحديث يخالف هذا الأمر، ويرى أنّ الصمت مسألة متعبة،
وقد تعكس كآبة وقلّة ثقة بالنفس، وتُعبِّر عن حضور غير صحّي.
بل إنّ هناك دراسة تُخبرنا بأنّ هناك إيجابية جديدة للكلام، وهي تقوية
وتحسين الذاكرة. هذه الدراسة نشرتها مجلة (Science Daily). وتقول خُلاصتها:
إنّ "الثرثرة لمدة عشر دقائق في اليوم، قادرة على تحسين ذاكرة الإنسان
وجعل أداء الطالب في الإمتحانات أفضل". وهذه الدراسة قام بها متخصِّصون من
قسم الدراسات النفسية الإجتماعية في جامعة "ميتشيغان". وجاء فيها أيضاً:
"إنّ الكلام سُلوك إجتماعي يجعل الإنسان يشعُر بوجوده بشكل أفضل".
وبهذا الخصوص أيضاً، تم عمل دراستين على قرابة أربعة آلاف شخص من أعمار
مختلفة، وشملت الدراستان قياس درجة الثرثرة وعلاقتها باختبار الذكاء
والنجاح في حفظ المعلومات. وجاء في النتائج، أنّ الأكثر ثرثرة هم الأكثر
تحصيلاً للدرجات المتقدِّمة، وأنّ الأكثر ذكاء والأقوى ذاكرة يُثرثرون مع
أصدقائهم كثيراً بواسطة الهاتف.
وكان السؤال المُوجَّه إلى هذه الفئة هو: كم مرّة يتحدثون مع أهلهم
وأصدقائهم وجيرانهم؟ ووُجِد أنّ الأكثر ثرثرة وتَواصلاً هم الأذكى والأسرع
في التحصيل العلمي.
وأكدت الدراسة، أنّ الثرثرة القصيرة هي المفيدة وليست الثرثرة الطويلة.
وفي جانب آخر، وُجِد أنّ حلّ "الكلمات المتقاطعة" يعطي نتائج شبيهة.
خُلاصة كل ذلك، أنّ العزلة الإجتماعية أمرٌ خطير، وأنّ العيش في إنقطاع عن
الآخرين يؤدي إلى تراجع في الوظائف العقلية، وأنّ كثرة الإحتكاك مع
الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل، وتبادل الأحاديث معهم، لا بل الثرثرة
وإيّاهم، أمور مفيدة جدّاً لحياتنا، ولدماغنا ولذاكرتنا. ولأجل ذلك، فإنّ
"العزل الإنفرادي" هو عقاب لا يحتمله الإنسان، لأنّه يؤدي إلى حالة تخلُّف
وتَبلُّد يرفضها العقل.
ومن أجل ذلك يصحُّ القول عن الإنسان، إنّه "حيوان إجتماعي". ولهذا السبب
تطوَّر عقله من الحالة البدائيّة إلى الحالة المتطوّرة التي هو عليها
اليوم.