السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قال القرطبي في "التذكرة في أحوال القبور و أمور الآخرة" : (قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع
من زيارة القبور و خاصّة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر، و التخويف و الترغيب، و أخبار
الصالحين. فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها.
الثاني : ذكر الموت فيكثر من ذكر هادم اللذّات و مفرّق الجماعات و ميتّم البنين و البنات كما تقدّم في الباب قبل،
يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها. فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرقّ قلبك.
ففعلت ذلك فرقّ قلبها. فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها. قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي، و
يلين القلب القاسي، و يذهب الفرح بالدنيا و يهوّن المصائب فيها.
الثالث : مشاهدة المحتضرين، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته، و نزعاته، و تأمل صورته بعد مماته،
ما يقطع عن النفوس لذاتها، و يطرد عن القلوب مسراتها، و يمنع الأجفان من النوم، و الأبدان من الراحة، و يبعث
على العمل، و يزيد في الاجتهاد و التعب.
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، و شدة ما نزل به،
فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم
بطعامكم و شرابكم. فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه، و لزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، و يستصرخ بها على فتن
الشيطان و إغوائه، فإن انتفع بها فذاك، و إن عظم عليه ران القلب، و استحكمت فيه دواعي الذنب، فزيارة قبور
الموتى تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول و الثاني و الثالث، و لذلك قال عليه السلام : "زوروا المقابر فإنها تذكر
الموت و الآخرة، و تزهد في الدنيا"، فالأوّل : سماع بالأذن، و الثاني : إخبار للقلب بما إليه المصير، و قائم له
مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر، و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة، فلذلك كانا أبلغ من
الأول و الثاني.
قال صلى الله عليه و سلم : "ليس الخبر كالمعاينة" رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال
المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات. و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات، و أما زيارة
القبور : فوجودها أسرع، و الانتفاع بها أليق و أجدر، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها، و يحضر
قلبه في إتيانها، و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط، فإنّ هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من
ذلك. بل يقصد بزيارته : وجه الله تعالى، و إصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن. على ما
يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. و يجتنب المشي على المقابر، و الجلوس عليها إذا دخل المقابر، و يخلع نعليه. كما
جاء في أحاديث. و يسلّم إذا دخل المقابر و يخاطبهم خطاب الحاضرين. فيقول : "السلام عليكم دار قوم
مؤمنين"، كذلك كان عليه الصلاة و السلام يقول، و كنّى بالدار عن عمارها و سكانها، و لذلك خاطبهم بالكاف و
الميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله. و إذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلّم عليها أيضا فيقول : عليك
السلام. روى الترمذي في جامعه : (أن رجلا دخل على النبي صلى الله عليه و سلم، فقال : عليك السلام، فقال
صلى الله عليه و سلم : لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت.) و ليأته من تلقاء وجهه في زيارته
كمخاطبته حيّا، و لو خاطبه حيّا لكان الأدب استقباله بوجهه. فكذلك هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، و
انقطع عن الأهل و الأحباب، بعد أن قاد الجيوش و العساكر، و نافس الأصحاب و العشائر، و جمع الأموال و
الذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، و هول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، و درج
من أقرانه، الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، و لم تغن عنهم أموالهم، و محا التراب
محاسن وجوههم، و افترقت في القبور أجزاؤهم، و ترمل بعدهم نساؤهم، و شمل ذل اليتم أولادهم، و اقتسم غيرهم
طريقهم و بلادهم.
و ليتذكر ترددهم في المآرب، و حرصهم على نيل المطالب، و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب، و ركونهم إلى الصحة و
الشباب، و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم، و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع
كغفلتهم، و أنه لابد صائر إلى مصيرهم، و ليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، و كيف تهدمت رجلاه،
و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه، و يصول ببلاغة نطقه، و قد أكل الدود لسانه، و يضحك لمؤاتاة
دهره و قد أبلى التراب أسنانه، و ليتحقق أن حاله كحاله، و مآله كمآله، و عند هذا التذكر و الاعتبار، يزول عنه
جميع الأغيار الدنيوية، و يُقبل على الأعمال الأخرويّة، فيزهد في دنياه، و يقبل على طاعة مولاه، و يلين قلبه، و
تخشع جوارحه، و الله أعلم.)
رحم الله الإمام القرطبي و سائر علماء المسلمين. ملاحظة فقط : الأعمال الأخروية و الزهد في الدنيا و طاعة
المولى سبحانه لا تعني الانقطاع عن الدنيا للعكوف على العبادة بالمعنى الذي نعرفه إنما تعني كبح جماح الشهوات
و العمل الجادّ في ما يرضي الله سواء كانت عبادة محضة كالصلاة و الصوم أم كانت أيّ عمل دنيوي تكون النيّة
من ورائه ابتغاء وجه الله و إعلاء كلمته في الأرض و نصرة دينه بصفة عامّة.