أخرج الإمام مالك في موطئه من كتاب الجامع: ما جاء في الغضب، عن مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عن الغضب".
هذا الحديث النبوي العظيم، أخرجه البخاري ومسلم و أحمد، وهو من الأحاديث
التي جرت على ألسنة الناس، ويكثر الاستشهاد به ولكن الملاحظ. أن كثير من
الناس يصحفون هذا الحديث تصحيفا يفسد معناه. فقول النبي صلى الله عليه وسلم
ليس الشديد بالصرعة " يقرأ في الغالب السرعة .
و هذا تحريف سمعناه في خطب الجمعة ودروس الوعظ مرات ومرات.
الشديد: لغة يرجع معناها إلى القوة والصلابة والجلادة ومنه الأشد وهو الرجل الذي بلغ الحنكة والمعرفة (1) .
و
الصرعة: في كلام العرب الحليم عند الغضب وهو المبالغ في الصراع، فالصرعة
هو الذي يصرع الرجال و لا يصرعونه، و الصرع الطرح بالأرض (2).
إذن فيكون المعنى أن القوي الحقيقي هو الذي يستطيع أن يصرع نفسه بالمجاهدة
و رفها عن هواها، فألد أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه ولذلك قد جعل
النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس
للذي يغلب الناس ويصرعهم(3) .
قال صاحب المنتقى: فندب بهذا - أي يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا الحديث. ملك الرجل نفسه عند الغضب عن إمضاء ما يقتضيه الغضب من أذى من
يملك أذاه أو منازعة من ينازعه، وقد قال الله عز وجل: " الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش، و إذا ما غضبوا هم يغفرون " الشورى 37.
فمنع النفس عن الغضب ومجاهدتها من التلبس به يقيها من التلفظ بالفحش و
الشتم و ربما الضرب و القتل، وقد نقل صاحب الفتح كلاما نفيساً عن العلامة
الطوفي رحمه الله تعالى، قال: أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد
الحقيقي، و هو لا فاعل في الكون إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة له، فمن
توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء، لم يكن ذلك الغير
منه، اندفع غضبه لأنه لو غضب و الحالة هذه كان غضبة على ربه جل وعلا وهو
خلاف العبودية قلت، و بهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم: الذي غضب
بأن يستعيذ من الشيطان، لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعادة
به من الشيطان أمكنة من استحضار ما ذكر، وإذا استمر الشيطان متلبساً متمكنا
من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك والله أعلم(5).