والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
المقدمة:
لم يكن الصحابة والتابعون ومن تبعهم في حاجة لما يسمى عندنا اليوم بعلم التخريج؛ وذلك لأن حفظهم للأحاديث بأسانيدها ومتونها، واطلاعهم على مصادر السنة، وقرب عهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلتهم الوثيقة بمصادر الحديث الأصلية؛ فكانوا عندما يريدون الاستشهاد بحديث ما، تسعفهم ذاكرتهم بمتنه وطرقه. وبمرور الزمن، طالت الأسانيد من جهة، وانشغل المسلمون أو أكثرهم عن حفظ السنة النبوية الشريفة كما كان يحفظها أسلافهم، وأصبح الباحث في غفلة عن كتب كثيرة ألفت في جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجهل مناهجها، إلى أن جاء عصرنا وقد ابتعدنا أكثر عن سنة نبينا حفظا وعملا وعلما؛ فأصبح بعض الباحثين يستشهدون بنصوص ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست من حديثه، ظنا منهم أنها من أحاديثه، وبعضهم يستشهد بروايات مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبين مواضعها في كتب الرواية، ولا يعرف درجتها من الصحة أو الحسن أو الضعف، أو الوضع، ولا ما جاء من نصوص للعلماء حولها، وأحسنهم قليلا من كان يعزو الأحاديث التي يستشهد بها إلى غير مصادرها الأصلية، ولما نشطت حركة تحقيق المخطوطات، ظهر من لا يدقق في النصوص الواردة فيها، أو يعزوها إلى غير مصادرها الأصلية، وذلك لجهلهم بمناهج كتب السنة، وطرق تأليفها، وبعدهم عن حفظها، ومدارستها.
من أجل ذلك، ظهر من العلماء من شمر عن سواعد الجد، وصنفوا كتبا فهرسوا فيها الأحاديث النبوية الشريفة على طريقة المعاجم، أو على الكتب والأبواب، أو على المسانيد والأطراف، فكانت هذه المصنفات الأدلة المساعدة على معر فة الأحاديث في مصادرها الأصلية.
وتأتي هذه المذكرة إسهاما مني في تعريف طلبتنا بمبادئ هذا العلم؛ من حيث التعريف به، وبيان أهميته، وفوائده، وطرقه، مع تسجيل بعض الفوائد والملاحظات التي أراها مهمة من حين لآخر. أرجو الله تعالى أن ينفع بها طلبتنا في هذه الجامعة وفي غيرها، وأوفق بالقدر الكافي في تبليغهم هذا العلم، مع التأكيد على أن مسائل كثيرة، وفوائد جليلة، وأمثلة أصيلة ستذكرها الأستاذة في المحاضرات، وهي ليست موجودة في هذه المطبوعة، من أجل ذلك أنبه الطلبة على ضرورة الحضور لسماع هذه الدروس في أوقاتها المبرمجة، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
سيتم التركيز في هذا الفصل على المسائل الآتية:
1 ـ المعاني اللغوية للتخريج.
2 ـ التخريج في اصطلاحات المحدثين.
3 ـ تعريف التخريج عند المعاصرين.
4 ـ مناقشة هذه التعريفات.
5 ـ أهداف التخريج.
6 ـ علاقة التخريج بالاستخراج.
7 ـ حقيقة الاستخراج.
8 ـ فوائد المستخرجات.
9 ـالمؤلفات فيها.
10 ـ فوائد التخريج.
11 ـ مثال عملي يبين ذلك.
12 ـ فن الفهرسة عند المسلمين.
13 ـ طرق التخريج، وفيه ذكر:
ـ تعريفها.
ـ أنواعها.
ـ المؤلفات الخاصة بكل طريقة.
14 ـ مراحل التخريج الفني.
المعاني اللغوية للتخريج.
التخريج والإخراج، مشتق من "خ. ر. ج"، وهي عبارة تحمل معاني مختلفة في اللغة من ذلك:
- اجتماع أمرين متضادين في شيء واحد، يقال مثلا: عام فيه تخريج = أي فيه خصب وجدب. "وأرض مخرّجة" = أي نبتها في مكان دون آخر.
- "خرّج المسألة" = يعني وجّهها، وبيّن لها وجها.
- "الاستخراج والاختراج" = أي الاستنباط.
- "المخرج" = موضع الخروج، فيقال: خرج مخرجا حسنا، وهذا مخرجه.
- الخروج: نقيض الدخول.
* والتخريج والإخراج = بمعنى الإبراز والإظهار([1]).
- ومنه قوله تعالى: "كزرع أخرج شطأه" [الفتح: 29] = أي كمثل زرع أبرز وأظهر فراخه([2]).
- ومنه قول المحدثين: "هذا حديث عرف مخرجه = أي موضع خروجه: وهم رواة الإسناد الذين خرج الحديث عن طريقهم([3]).
- ومنه قول المحدثين عن حديث ما: أخرجه البخاري: بمعنى أبرزه للناس
وأظهره لهم ببيان مخرجه، وهم رجال الإسناد الذين خرج الحديث عن طريقهم([4]).
وبهذا تكون أقرب عبارة من هذه المعاني لاستعمالات المحدثين هي: الإظهار والإبراز بشكل عام([5]).
II- التخريج في اصطلاح المحدثين: أطلق المحدثون هذه العبارة، وقصدوا منها معاني متنوعة منها:
1-إبراز الحديث وإظهاره للناس: ومنه قول ابن الصلاح: "وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان:
- إحداهما: التصنيف على الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيرها"([6])، فالمراد بقوله: "تخريجه" = أي روايته للناس في كتابه.
2- رواية الحديث: فيقال: "أخرجه الإمام أحمد أو البخاري...الخ"، يعني رواه وأظهر مصدره فيه([7]).
وقد يقع في غلاف بعض الكتب القديمة قوله: "تخريج الحافظ فلانا = بمعنى روايته. وقد ورد التخريج بهذا المعنى في كلام بعض المتأخرين؛ كالحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "جامع العلوم والحكم"؛ فكثيرا ما يقول: خرّجه البخاري ومسلم = أي روياه.
3- ويطلق عندهم على معنى الدلالة على مصادر الحديث وعزوها: ومنه قول المناوي في شرح كلام السيوطي في مقدمة الجامع الصغير: "وبالغت في تحرير التخريج"؛ بمعنى اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمة الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد، فلا أعزو إلى شيء منها إلاّ بعد التفتيش في حاله وحال مخرجه، ولا أكتفي بعزوه إلى من ليس من أهله، وإن جلّ، كعظماء المفسرين"([8]).
- وكذلك قول مسلم في مقدمة صحيحه: "ثم إنّا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت"([9])، أي في إيراد الأحاديث وتهذيبها والاجتهاد في تنقية أسانيدها، وبيان مخرجيها من الرواة والنقلة([10]).
4 - تأليف الكتاب وإخراجه: كقولهم: "خرج فلان لنفسه معجما: أي ألّف كتابا في أسماء شيوخه، وكذا معنى قولهم: "خرج فلان لفلان مشيخته"([11]).
5- انتقاء الغرائب أوالصحاح أو كليهما من كتاب معين، مع بيان من رواه من المتقدمين، كأصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها: ويتضح ذلك من عنوان الكتاب:
· كتاب "الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب" لأبي القاسم المهرواني، تخريج الخطيب البغدادي.
· وكتاب: "الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب، انتقاء الخطيب البغدادي من حديث الشريف أبي القاسم علي بن إبراهيم الحسني".
· وكتاب: "الفوائد المنتخبة الصحاح العوالي لجعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري، تخريج الخطيب البغدادي".
تتمة وتنبيه:
الانتقاء والانتخاب: عبارة عن منهج علمي دقيق، سلكه أئمة النقد منذ عصور متقدمة؛ وهو عمل لا يسع القيام به إلاّ نقاد الحديث، المتمكنين من علم الحديث فهما وحفظا وتطبيقا.
- وفيه ما يتصل بالرواية: أي انتقاء المرويات من بطون الصحاح، أو السنن، أو الموضوعات، وغيرها.
- وفيه ما يتصل بالكتب: أي انتقاء الكتب المصنفة في الأحاديث وتمييز مروياتها، والنظر فيها...الخ.
قال سليمان بن موسى: "يجلس إلى العالم ثلاثة:
ا- رجل يكتب كل ما يسمع.
ب- ورجل لا يكتب ولا يسمع؛ فذاك يقال له جليس العالم.
ج- ورجل ينتقي، وهو خيرهم([12]).
وفي هذا الصدد يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: "إذا كان المحدث مكثرا وفي الرواية متعسرا، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه، وينتخبه؛ فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره، ويتجنب المعاد من رواياته؛ وهذا حكم الواردين من الغرباء الذين لا يمكنهم طول الإقامة. وأما من لم يتميز للطالب معاد حديثه من غيره، وما يشارك في روايته مما ينفرد به، فالأولى أن يكتب حديثه على الاستيعاب دون الانتقاء والانتخاب".
وإذا كان الانتقاء والانتخاب في عمل الخطيب البغدادي وغيره من الأئمة الذين نحوا نحوه، قد ظهرت فيه بوادر التخريج، من حيث عزو الحديث إلى مصنفات الحفاظ من المتقدمين مع بيان "البدل" و "الموافقة"([13]) ونحوهما من المصطلحات، فإن الانتقاء عند المتقدمين عنه من نقاد الحديث، أخذ شكلا أوسع من هذا من حيث اهتمامهم بانتقاء الغرائب والصحاح، وبحثها، والتمييز بينها، والكلام في رواة أسانيدها...الخ([14]).
6- فرق الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الصديق الحسني (ت 1380 هـ)، بين عبارتي "التخريج" و "الإخراج"، فقال:
"أما التخريج: فهو عزو الأحاديث التي تذكر في المصنفات مطلقة غير مسندة ولا معزوة إلى كتاب أو كتب مسندة؛ إماّ مع الكلام عليها تصحيحا وتضعيفا وردا وقبولا، وبيان ما فيها من العلل، وإماّ بالاقتصار على العزو إلى الأصول. ويقال فيه: خرّج أحاديث كتاب كذا، ولا يقال فيه: "أخرج"([15]).
- وأما الإخراج: فهو رواية الحديث بالإسناد من مخرجه وراويه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان مرفوعا، أو إلى الصحابي إن كان موقوفا، أو إلى التابعي إن كان مقطوعا؛ لأنه قبل إسناده كان مستور الحال، مجهول الرتبة، كأنه معدوم؛ فإسناده المتصل إلى قائله أبرزه للوجود، وأخرجه للانتفاع به ومعرفة رتبته، ويقال فيه: أخرج من الإخراج، لا خرّج المضعف من التخريج([16]).
7- الاستخراج: قد يرد التخريج بمعنى "الاستخراج".
والاستخراج: هو أن يقصد الحافظ إلى مصنف مسند لغيره، فيخرج أحاديثه بأسانيد نفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه، أو شيخ شيخه، وهكذا إلى صحابي الحديث، بشرط: ألاّ يورد الحديث المذكور من حديث صحابي آخر، بل لابد أن يكون من حديث ذلك الصحابي نفسه، بشرط أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد طريقا يوصله إلى الشيخ الأقرب من صاحب الأصل، إلاّ لعذر من علو أو زيادة مهمة([17]).
ملاحظة:
تبيّن لي – والله أعلم- من خلال ما درسناه عند شيخنا د. حمزة المليباري، حفظه الله، وقراءتي كتابه، ومن خلال قراءتي بعض كتب السنة، ومناهج الأئمة، أن الاستخراج يحمل معنيين متكاملين:
أولا: الاستخراج كمنهج:
إذ يعد الاستخراج منهجا علميا، قامت عليه نهضة الحديث في عصر الرواية؛ حيث صنف كثير من الحفاظ مصنفات عما رواه سابقيهم بطرق أخرى يلتقون معهم فيها في مصدر ذلك الحديث، أو في أقرب شيوخه، طلبا لعلو الإسناد، واستقلالا بمصدريته في الرواية([18]).
وعادة ما يكون السابق المستخرَج عليه –بفتح الراء- من أقران المستخرِج –بكسر الراء- في القرنين الثاني والثالث، وحتى الرابع، أما بعد ذلك فقد يكون المستخرج عليه من أقرانه أو متقدما عليه، وفي هذه الفترة أصبح الاستخراج ممزوجا بأساليب التخريج الأولية؛ حيث يبيّن فيه المستخرج من رواه من المتقدمين، مع الإشارة إلى حالة الالتقاء بينهما في السند([19]) ومثال ذلك ما جاء في "السنن الكبرى" للبيهقي، و "شرح السنة" للبغوي، وغيرهما من كتب الرواية التي ظهرت في هذه الفترة([20]).
مثال من السنن الكبرى للبيهقي، قال الإمام البيهقي رحمه الله:
"أخبرنا أبو صالح، نبأ جدي يحيى بن منصور، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة (ح) وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري. أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن أبي عدي جميعا عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه" [رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن بشار، ورواه مسلم عن محمد بن المثنى عنهما([21]).
ثانيا: الاستخراج كمصنفات:
وهو ذاك الذي جاء معرفا في اصطلاح أهل الحديث: بأن يعمد أحد الحفاظ إلى كتاب رواية متقدم، فيؤلف له مستخرجا بطرقه المستقلة، طلبا للعلو، فيلتقي مع صاحب الكتاب بأحد شيوخه...الخ([22]).
فوائد المستخرجات ومقصودهم منها: للمستخرجات فوائد كثيرة أذكر منها:
1- البراعة.
2- اختبار الحفظ.
3- سعة الرواية.
4- كثرة الشيوخ والطرق والأسانيد.
5- مساواة المستخرج عليه فيما عنده من الحديث والأسانيد مع إظهار حالة الالتقاء معه: موافقات، وأبدال، ومساواة ومصافحة([23]).
6- علو الإسناد: فإن المستخرج يتوخى دائما الطريق العالية التي تجمعه مع شيخ المستخرج عليه أو من فوقه، ويساعده على ذلك:
- أن الأصل مقيد بالرواية عن الثقات.
- لأن أول ما وضع الاستخراج على الصحيحين أو أحدهما، أو أكثر المستخرجات هي عليهما، بل ومقيد أيضا بشرط السماع في الأكثر، والمستخرج لا يتقيد بذلك، فيروي ولو بالإجازة، ومن طريق بعض الضعفاء، ليتصل عاليا بشيوخ المستخرج عليه([24]).
7- زيادة ألفاظ في الحديث لم تقع في رواية الأصل: وتلك الزوائد يتبيّن بها تارة المعنى المغلق من الحديث، وينحل بها الإشكال الوارد عليه، وتارة حكما زائدا لا يستفاد من حديث الأصل، وتارة تكون بيانا لسبب ورود الحديث وتارة تفيد تاريخا بوقت تحديث النبي صلى الله عليه وسلم به؛ فيستفاد منها كون الحديث ناسخا لغيره أو منسوخا به... الخ([25]).
8- بيان المبهم في السند: كأن يقع في الأصل: "عن رجل من الصحابة، فيأتي المستخرج فيعيّن اسم هذا الصحابي.
9- بيان المبهم في المتن: كأن يقع في المتن: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو : "قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل كذا"، فيأتي المستخرج فيبين اسمه.
10- بيان المهمل: كقول المستخرج عليه: "حدثنا محمد أو عمر أو عبد الله... الخ. فيأتي المستخرج فيبيّن أن محمدا هو ابن يحيى النهلي، أو ابن سلام البيكندي، وكذلك إذا قال حدثنا سفيان، فيبيّن المستخرج أنه الثوري أو ابن عيينة... الخ.
11- أن تكون الرواية في الأصل من رواية مدلس بالعنعنة، فيقع في رواية المستخرج تصريحه بالسماع والتحديث، فيرتفع ما كان يخشى من تدليسه.
12- أن يروي في الأصل عن من اختلط، ولم يتبيّن هل سمعه منه تلميذه قبل الاختلاط أو بعده؟ فيقع في المستخرج ما يبيّن ذلك.
13- كثرة الطرق التي تتقوى بها الرواية عند التعارض أو يتقوى بها الحديث من أصله ويرفع عن روايته اسم التفرد؛ كأن يقع الحديث في الصحيحين من طرق متعددة كلها ترجع إلى مالك أو سفيان بن عيينة مثلا عن الزهري، فيظن أن مالكا أو سفيان قد تفرد بهذا الحديث عن الزهري ولم يتابعه عليه غيره، فيرويه المستخرج من طريق غيره عن الزهري، فيرتفع عنه اسم التفرد([26]).
14- فصل الكلام المدرج في الحديث مما ليس من الحديث.
15- بيان ما يقع في الكتاب المستخرج عليه من الأحاديث المصرح برفعها وتكون في الأصل موقوفة أو كصورة الموقوف.
16- تميز المتن المحال به على المتن المحال عليه، وذلك في كتاب الإمام مسلم كثير جدا([27]).
عناوين بعض المستخرجات:
1- مستخرج أبي بكر الإسماعيلي (ت 371 هـ) على صحيح البخاري.
2- مستخرج الحافظ محمد بن أحمد الغطريفي (ت 377 هـ) على صحيح البخاري.
3- مستخرج محمد بن العباس المعروف بابن أبي ذهل (ت 378 هـ) على صحيح البخاري.
4- مستخرج الحافظ أبي عوانة يعقوب بن الحافظ الاسفرائيتي (ت 316 هـ) على صحيح مسلم.
5- مستخرج أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري (ت 286 هـ) رفيق مسلم إلى بلخ والبصرة، على صحيح مسلم.
6- مستخرج أبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) على شرح كل من الصحيحين على حدة في كتاب مستقل.
7- مستخرج ابن الأخرم (ت 344 هـ) على الصحيحين.
8- مستخرج أبو ذر الهروي (ت 434 هـ) على الصحيحين.
9- مستخرج أحمد بن عبدان (ت 388 هـ) في كتاب واضح([28]).
10- مستخرج قاسم بن أصبغ (ت 340 هـ) على سنن أبي داود.
11- مستخرج أبي بكر بن منجويه (ت 428 هـ) على جامع الترمذي([29]).
تعريف التخريج عند بعض المعاصرين
من خلال بعض معاني التخريج السابقة، حاول بعض المعاصرين تعريف التخريج بالقول: "هو الدلالة على موضع الحديث في مصادره الأصلية من كتب السنة، وإبرازه للناس، مع بيان درجته عند الحاجة"([30]).
تحليل التعريف:
أ-قوله: "هو الدلالة على موضع الحديث... وإبرازه للناس" : لا يختلف اثنان في أن عزو الحديث إلى مصادره الأصلية من كتب الرواية، هو المرحلة الأولى الأساس من مراحل التخريج، إذ لا يمكن القول، إننا خرّجنا حديثا دون ذكر المصادر الأصلية التي روته، وذكر المواضع التي روي فيها، مع ذكر رقم الجزء والصفحة... الخ، وهذا ما يطلق عليه بعض الأساتذة والباحثين اليوم اسم: "التخريج الفني"، إذ وإن كان من المراحل الأساسية في التخريج. فإنه لا يعدو أن يكون عملية تقنية في عزو المرويات إلى مصادرها الأصلية من كتب الرواية.
ب- قوله: "مع بيان درجته عند الحاجة": عبارة عامة وواسعة، قد يتسع فهم معناها، وقد يضيق؛ - فبيان درجة الحديث، أي صحته أو حسنه أو ضعفه أو دون ذلك.
- "وعند الحاجة": قد يفهم منه أنه إذا لم يحتج إلى بيان الدرجة، لا يفعل ذلك، ثم متى تقتضي الحاجة بيان الدرجة؟ ومتى لا تقتضي ذلك؟ ثم ما هي كيفية بيان درجة الحديث؟... الخ.
ولهذا أنا مع رأي الفاضلين: الدكتور حمزة المليباري والدكتور سلطان العكايلة، في قولهما: إن هذا التعريف اقتصر على الجانب الفني للتخريج، وذلك يؤدي إلى تهميش الدور الرئيس والفعال للتخريج، و تجريده من قيمته الفعلية عمليا ونظريا([31]).
- وكانت نتيجة ذلك، أن أقحم بعض الناس –من غير ذوي الاختصاص- أنفسهم في تحقيق التراث، وفي التخريج مركزين على الجوانب الفنية، مبتعدين عن الجوانب العلمية له. كما أدى ببعض طلبة التخصص إلى التركيز على هذا المفهوم فحسب([32]).
- وإذ أؤكد على أن التخريج بهذا المعنى الفني، هو من الوسائل المساعدة على معرفة الجوانب العلمية له، والتي لا تنكشف إلاّ بعد دراسة الأسانيد، وجمع نصوص الأئمة... الخ، فإني أرى أن أنسب تعريف للتخريج، هو ما جاء في كتاب "كيف ندرس علم التخريج" قال: "هو كشف مظان الحديث من المصادر الأصلية التي تعتمد في نقله على الرواية المباشرة، لمعرفة حالة رؤيته من حيث التفرد، والموافقة، أو المخالفة"([33]).
تحليل التعريف وبيان الهدف من التخريج.
أ- هذا التعريف يشتمل على بيان الجوانب الفنية والعلمية من التخريج.
ب- استنادا إلى ما جاء في هذا التعريف، يتبيّن أن الهدف من التخريج لا يتوقف عند المسائل الفنية منه، بل يتعداه إلى معرفة حال الرواية من حيث التفرد، أو المخالفة، أو الموافقة.
ج- إن معرفة هذه الأمور يتوقف على جمع طرق الحديث من مصادرها الأصلية دون غيرها، ثم إجراء عملية المقارنة بينها، وتحديد مداراتها ومخارجها.
د- وعليه، فعندما نقوم بهذه العملية (أي المقارنة)، فإنه يتوجب علينا تحديد الراوي الذي تدور عليه جميع الطرق في الروايات التي جمعناها، وتحديد من اشترك من الرواة في نقل الحديث عن ذلك الراوي المدار، ومن تفرد منهم، ومن خالف([34]).
هـ- ومعرفة هذه الأمور هي الهدف الأساس من التخريج، ومن ثم تبرز أهمية التخريج في التصحيح والتحسين والتضعيف؛ حيث إنه لا يمكن تصحيح الحديث أو تضعيفه أو تحسينه إلاّ بعد التأكد من إحدى هذه الحالات الثلاث: التفرد، المخالفة والمشاركة.
و- إذ تعد هذه الحالات مع انضمام القرائن المحتفة بها، معايير دقيقة لمعرفة من أصاب من الرواة ومن أخطأ؛ إذ أن خطأ الراوي يظهر جليا في صور المخالفة أو التفرد بما لا أصل له، كما يظهر صوابه بموافقته الآخرين، أو بانفراده بما له أصل ثابت([35]).
وبهذه المعاني المتنوعة للتخريج عند أهل الفن، فإن نصيحتي للطلبة هي: ضرورة الانتباه إلى استعمالها بهذه المعاني المختلفة في النصوص التي يقرءونها، حتى لا يخلطوا بين معانيها من نص لآخر، مع التأكيد على ضرورة معرفة الهدف الأساس من التخريج في نواحيه العلمية، دون إهمال الجوانب الفنية له.
الفوائد التي يجنيها الباحث عند التخريج.
أثناء قيام الباحث بعملية تخريج الحديث من المصادر الأصلية، وجمع طرق الحديث منها، سيقف على فوائد عديدة، نذكر منها:
1- الوقوف على أسانيد الحديث في مختلف كتب السنة، أي التحقق من المصادر الأصلية التي روت هذا الحديث.
2- معرفة الرواة بأسمائهم، وكناهم، وألقابهم، وأنسابهم... الخ.
3- معرفة المهمل من الرواة؛ فقد يأتي في أحد الأسانيد اسم بعض الرواة مهملا كمحمد أو علي، وبتخريج الحديث وجمع طرقه، قد يتبين التعريف بهذا الاسم المهمل، ببيان نسبه أو كنيته... الخ.
4-التعرف على المبهم من الرواة، فقد يذكر في أحد الأسانيد الراوي مبهما مثل "عن رجل" أو "عن فلان"، وبالتخريج وجمع الطرق، قد نجده معينا في إحداها.
5- معرفة الاتصال والانقطاع.
6- معرفة صيغ الأداء؛ وذلك بأن يروي أحد الرواة في بعض الطرق عن شيخه بالعنعنة –الأمر الذي يجعل الإسناد منقطعا، والراوي متهما بالتدليس- وبالتخريج يمكن الوقوف على طريق أو طرق، يروي فيها هذا المدلس عن شيخه بصيغة تفيد الاتصال ك "سمعت" و "حدثنا" و "أخبرنا"، فتزول سمة الانقطاع والتدليس في هذه الرواية.
7- معرفة شيوخ الراوي.
8- معرفة تلاميذ الراوي.
9- معرفة الأسانيد من حيث العلو والنزول.
10- معرفة الزيادة والنقص في الأسانيد والمتون.
11- معرفة أحوال من اختلط من الرواة، وكيفية الرواية عنهم:
فإذا كان في إسناد الحديث الذي نريد تخريجه راو اختلط، فبالتخريج يتضح لنا حال الرواية عنه، إذا كانت قبل اختلاطه أو بعده، أو إذا كان الراوي عنه من الذين لم يرووا عنه إلاّ قبل الاختلاط.
12- معرفة أقوال الأئمة في الحديث وأحكامهم عليه، والذي لا يتأتى بسهولة إلاّ بالتخريج.
13- معرفة حال الرواية، بناء على جمع طرقها، فقد تأتي بطريق ضعيف، وبالتخريج نجد لها طرقا أخرى صحيحة، أو قد يكون الانقطاع في إحدى الطرق، وبالتخريج نجده متصلا في طرق أخرى، أو قد ترتقي هذه الرواية من الضعف إلى الحسن بوجود متابعات وشواهد تقويها.
14- بيان معاني الغريب؛ فقد يذكر لفظا في إسناد الحديث غريبا، وبالتخريج نجده مذكورا بطرق أخرى بألفاظ أخرى تبيّن معناه.
15- معرفة المدرج: إذا كان الراوي قد أدرج كلاما في المتن، أو أضاف بعض الرواة إلى السند وهي خطأ، فبالتخريج وجمع الطرق والمقارنة بينها، يمكن كشف ذلك.
16- كشف أوهام الرواة وأخطائهم في الأسانيد أو في المتون.
17- معرفة بعض الأحداث التاريخية والأزمنة والأماكن والقصص.
18- كشف أخطاء النساخ.
وأوصي الطالب أو الباحث في هذا المقام، بأنه يجب عليه أن لا يهمل هذه الفوائد وغيرها، أثناء مرحلة التخريج. وعليه أن يسجلها في أوراق جانبية، ليوظفها في مراحل التخريج المتتالية، سيّما عند المقارنة بين المرويات، وأثناء ترجمة الرواة، فإن الكثير من العقبات العلمية التي تواجه الطالب عند الترجمة تزول بذلك([36]).
والذي ينبغي على الطالب أو الباحث التنبه إليه هنا، هو ضرورة التمييز بين الهدف الرئيس من التخريج، وبين هذه الفوائد الجانبية التي يتحصل عليها أثناء عملية التخريج؛ لأن الخلط بينها يجعل التخريج غاية. والحقيقة على خلاف ذلك؛ فإن هذه الفوائد تعد وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى من التخريج –كما رأينا سابقا-.
وللوقوف عمليا على بعض هذه الفوائد، أسوق المثال الآتي:
* قال الإمام الترمذي: الجامع، كتاب الزهد، 4/558.
1- "حدثنا أحمد بن نصر النيسابوري وغير واحد قالوا: أخبرنا أبو مسهر، عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة، عن الأوزاعي، عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ من هذا الوجه".
2- "حدثنا قتيبة. حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن حسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
قال أبو عيسى: "وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك مرسلا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. وعلي بن حسين، لم يدرك علي بن أبي طالب".
* وروى الإمام مالك هذا الحديث.
عن ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"([37]).
* ورواه الإمام أحمد بن حنبل، قال:
حدثنا ابن نمير ويعلى، قالا: حدثنا حجاج –يعني ابن دينار الواسطي- عن شعيب بن خالد عن حسين بن علي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما ما لا يعنيه"([38]).
وقال:
حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الله بن عمر عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"([39]).
* وقال ابن ماجه:
حدثنا هشام بن عمار. حدثنا محمد بن شابور. حدثنا الأوزاعي. عن قرة بن حيوئيل عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"([40]).
من هذا المثال تتضح لنا عدة فوائد، هي:
1- بالتخريج عرفت من أخرجه من الأئمة، وهم: مالك وأحمد، والترمذي، وابن ماجه.
2- بالتخريج عرفت أن الحديث يروى متصلا ومرسلا.
3- بالتخريج عرفت أن مدار الحديث هو الإمام الزهري، واختلف عليه، فبعضهم يرويه عنه مرسلا، وبعضهم يرويه عنه متصلا.
4- جاء في بعض طرق الحديث: علي بن حسين، وفي أخرى علي بن حسين بن علي بن أبي طالب.
5- بالتخريج عرقت بعض شيوخ الأئمة، أحمد والترمذي وابن ماجه.
6- بالتخريج عرفت أن هناك زيادات في ألفاظ الحديث في بعض الطرق، كما هو الحال عند الإمام أحمد (قلة الكلام فيما لا يعنيه).
7- بالتخريج عرفت أن قرة في رواية الإمام الترمذي، هو قرة بن حيوئيل، كما بينته طريق الإمام ابن ماجه.
8- بعد أن روى الإمام الترمذي الحديث، أشار إلى بعض المسائل الهامة، التي تجعل الباحث يتوقف عندها في مراحل الدراسة المقبلة، كقوله عقب الرواية الأولى: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبى سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ من هذا الوجه".
وقال عقب الرواية الثانية: "وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري، عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث مالك مرسلا. وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعلي بن حسين لم يدرك علي بن أبي طالب".
ولو قارنا كلام الإمام الترمذي مع ما ذكره أبن أبي حاتم في كتابه "العلل"، وما ذكره الإمام الدارقطني في كتابه "العلل" سوف تتبيّن لنا فوائد أخرى، كما سنوضح ذلك في المراحل القادمة.
مسائل ضرورية في التخريج
التخريج الفني للحديث معناه: عزوه إلى مصادره الأصلية (التي ترويه بالرواية المباشرة)، مع بيان درجته عند الحاجة.
- فتقول مثلا: أخرجه البخاري، في كتاب الطهارة، باب الوضوء، الجزء الأول ورقم الصفحة، ورقم الحديث إن وجد، ثم تذكر معلومات الطبع (عند أول ذكر للكتاب).
- وإذا كنت تعد بحثا، فإن معلومات الطبع يعاد ذكرها في آخر البحث، مع بيان الطبعات إذا كان للكتاب أكثر من طبعة، اعتمدتها في بحثك، أو تعطي لكل طبعة رمزا، وتبيّن ذلك في المقدمة.
- وإذا كنت تعد بحثا في التحقيق، فعليك أن تذكر أغلب الأمور التي تتعلق بالحديث كأن تبيّن درجته من الصحة، أو الحسن أو الضعف، وما قيل عنه من اتصال، أو انقطاع، وما قيل في الجمع بين المرويات التي يبدو من ظاهرها التعارض... الخ.
- وإذا طلب منك تخريج حديث دون تحديد اسم الصحابي فيه، فعليك أن تخرجه عن كل الصحابة الذين يروونه، ثم تفصل رواية كل صحابي، ببيان من أخرجها من الأئمة، مع ذكر الكتاب والباب والجزء والصفحة
- أما إذا طلب منك تخريج حديث مع ذكر الصحابي، فأخرجه عن هذا الصحابي وبيّن من رواه من الأئمة. فإذا وجدته مرويا عن غيره من الصحابة، فيمكنك بيان ذلك كفوائد ملحقة وكشواهد (وهي ليست حديثك المطلوب)، وبعد ذكرك لمعلومات تخريجه عن الصحابي المعين، يمكنك أن تقول: وللحديث شاهد أو شواهد من طريق الصحابي الفلاني، ثم توثق هذه المعلومات.
ملاحظة هامة:
إن مهمة المخرج، في مراحل التخريج الفنية الأولى، هي البحث عن أصل الحديث المطلوب، فإذا وجد تغيرا في الألفاظ أو في الأسانيد، بالزيادة أو النقص، فليخرجه، وتبقى دراسة هذه المسائل للمراحل المقبلة من التخريج والتي قلنا إنها هي الهدف الأساس منه، لنعرف التفرد أو المخالفة، أو المشاركة. ودليلنا أن العمدة في التخريج الفني هي أصل الحديث، نص الحافظ النيسابوري، رحمه الله، مبيّنا ذلك، قال: "ثم إن أصحاب المستخرجات غير متفردين بصنيعهم، بل أكثر المخرجين للمشيخات والمعاجم، وكذا للأبواب، يوردون الحديث بأسانيدهم، ثم يصرحون بعد انتهاء سياقه غالبا بعزوه إلى البخاري أو مسلم أو إليهما معا، مع اختلاف الألفاظ وغيرها يريدون أصله[...]"([41]).
وما قاله الحافظ العراقي، رحمه الله: "وحيث عزوت الحديث لمن أخرجه من الأئمة، فلا أريد بذلك اللفظ بعينه بل قد يكون بلفظه، وقد يكون بمعناه، أو باختلاف على قاعدة المستخرجات"([42]).
طرق التخريج:
بعد تعرفنا على التخريج وأهميته، وأهدافه، وفوائده، نحاول الإجابة على السؤال الذي يدور في ذهن كل طالب مبتدئ، ألا وهو: كيف نخرج حديثا؟ و هل هناك وسائل تساعدنا في عملية التخريج؟ وإذا كان الجواب بالإثبات، فما هي هذه الوسائل؟
يفيدنا تاريخ تدوين هذا العلم خاصة، وتدوين السنة النبوية الشريفة عموما، أن أئمة الحديث قد عنوا بهذا الفن منذ عهد مبكر، خاصة لمّا بدأ بعض أهل الفقه والتصوف، في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الهجري الرابع ، يؤلفون كتبهم، متدلين فيها بأحاديث دون بيان من رواها من أئمة الحديث في كتب الرواية المعروفة، فجاء من أئمة الحديث من تصدى لهذه الظاهرة، وخرج الأحاديث المذكورة في هذه الكتب، بعزوها إلى مصادرها الأصلية، ولعل البوادر الأولى لهذا الفن ترجع إلى ما قبل هذه الفترة؛ إذ يعد جامع الإمام الترمذي، في عصر الرواية، أنموذجا فريدا لعزو المرويات إلى من رواها من الصحابة، بقوله عادة بعد رواية الحديث في الباب:" وفي الباب عن فلان وفلان وفلان، ويذكر جملة من الصحابة الذين رووا ذاك الحديث في الباب. وإن كان قصد الإمام الترمذي الأساس هو ذكر من روى الحديث من الصحابة في الباب، ولا شك أنه يعرف مروياتهم ويحفظها، ولكنه اكتفى بما ذكره في الباب مع الإشارة إلى البقية مما يعرفه فيه، خشية الإطالة لو ذكرها كلها، فإن عمله هذا يعد صورة من صور عزو المرويات إلى مصادرها، ثم تطور الأمر بعد ذلك لتمتزج الرواية عند بعض الأئمة بعزو المرويات إلى مصادرها من كتب الرواية المتقدمة، كما رأينا ذلك عند الإمام البيهقي وغيره، ثم ظهر من الأئمة من اعتنى بوضع فهارس خاصة بكتب السنة، أسهمت في تسهيل التعرف على مواضع الأحاديث في كتب الرواية، إلى أن ظهر من الأئمة من اعتنى ببيان مواضع الأحاديث في كتب السنة، وذكر الأئمة الذين رووها في كتبهم، ثم ظهر من وضع رموزا خاصة لكتب السنة مثل: استعمال الحف (خ) للدلالة على صحيح البخاري، وهكذا، واعتنى بعض المستشرقين، في القرن الماضي، بوضع فهارس تدل على مواضع الأحاديث في بعض كتب السنة، مما جعل كثير من العلماء والباحثين في مختلف التخصصات، يعتقد، و يجزم البعض الآخر بأن فن الفهرسة من وضع الغربيين. فهل هذا صحيح؟ الإجابة عن هذا السؤال تستلزم منا الكلام عن فن الفهرسة عند المسلمين.
كلمة عن فن الفهارس:
فن الفهارس فن دقيق عويص، على الرغم مما نشر فيه من مؤلفات، لا يزال يحتاج إلى مزيد من الرعاية والاهتمام. ويرجع الفضل في وضع هذا الفن إلى أئمتنا المتقدمين، حينما اجتهدوا في ترتيب مفردات اللغة العربية على الحروف الهجائية، وسبقوا بذلك سائر الأمم؛ فإن كتاب "الجمهرة" لابن دريد، معجم لغوي مرتب على الحروف، وهو مطبوع في حيدرآبا بالهند، وابن دريد توفي سنة 321هـ؛ فقد ألف هذا الكتاب إذن قبل أول مجموعة كلمات إنجليزية هجائية، بنحو سبعة قرون، وقبل أول معجم لاتيني ظهر في أوربا بأكثر من ثلاثة قرون.
فالعرب هم أسبق الأمم الحديثة قاطبة إلى القواميس: تأليفا، واستعمالا للترتيب الهجائي فيها، ومع ذلك فإن أكثر المتأدبين يعتقدون أن الترتيب الهجائي، شيء ابتدعه الإفرنج واختصت به القواميس الإفرنجية، وذاك غير صحيح([43]).
ثم وضعوا كتب التراجم على صورة المعاجم؛ فرتبوا فيها الأعلام على الحروف أيضا، وألفوا في ذلك مؤلفات ضخمة واسعة لم يطبع منها إلى اليوم إلا النزر اليسير. وإنما اضطر المتقدمون رحمهم الله، إلى معاجم الأعلام، لأن المطابع لم تكن وجدت، وأرادوا التيسير على القراء والباحثين.
وقد كانت كتب التراجم في العصور الأولى مرتبة على التواريخ والطبقات مثل: تواريخ البخاري الثلاثة، والبخاري توفي سنة 256هـ، وطبقات محمد بن سعد المتوفى سنة 230هـ.
ولعل الفضل الأول في تأليف الأعلام على حروف الهجاء، يرجع إلى الحافظ الكبير عبد الله بن عدي الجرجاني، المتوفى سنة 365هـ.
ومن مارس كتب التراجم وأطال القراءة فيها، يجد أن ما رتب منها على التاريخ والطبقات أعلى فائدة وأجلّ نفعا للمستفيد من الكتب المرتبة على الحروف؛ لأن القارئ يدرس رجال العصر الواحد وأحوالهم متتابعة متتالية، وإن كانت الكتب المعاجم أسرع دلالة على التراجم المطلوبة للباحث. ولو أن المطابع كانت متوفرة عند المتقدمين، لوضعوا أكثر كتبهم على الطبقات، ثم وضعوا لها ما شاءوا من فهارس على حروف المعجم، كما درج على ذلك المتأخرون، خاصة المستعربون، بعد ظهور المطابع، فوضعوا لما طبعوه من كتبنا هذه الفهارس الهجائية، واعتقدنا نحن أنهم أول من وضع فن الفهرسة، ورحنا نقلدهم في ذلك. ولم يكتف المتقدمون بمعاجم اللغة والأعلام، فعملوا معاجم في مختلف العلوم.
أما فيما يتعلق بالحديث، فقد بذل الأئمة المتقدمون جهدا كبيرا لإرشاد الباحثين إلى الأحاديث في مظانها الأصلية من الدواوين الكبار؛ كالكتب الستة وغيرها، فألفوا نوعا من الفهارس لها سمّوه "الأطراف"؛ حيث يجمع أحدهم فيه أحاديث الصحيحين، البخاري ومسلم، أو أحاديثهما مع أحاديث باقي الكتب الستة( سنن أبي داود، جامع الترمذي، سنن النسائي، وسنن ابن ماجه) ويفرد رواية كل صحابي وحده، ويرتب أسماء الصحابة على الحروف، ثم يبين موضع كل حديث من أبواب كل كتاب. ومن أقدم هذه المؤلفات، كتاب "أطراف الصحيحين" للإمام الحافظ خَلَف بن حَمْدون الواسطي المتوفى سنة 401هـ. وكتاب "أطراف الغرائب والأطراف" للإمام الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي المتوفى سنة 507هـ، وهو يشتمل على أطراف الكتب الستة، رتب فيه كتاب الأفراد للدارقطني على حروف المعجم. وكتاب "الأطراف" للحافظ الكبير أبي القاسم علي بن عساكر الدمشقي المتوفى سنة 571هـ. ومن أحدث كتب الأطراف، كتاب "ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث" للعلامة الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي المتوفى سنة 1143هـ، وهو أكثر كتب الأطراف فائدة مع الاختصار التامن وقد جعله لأطراف الكتب الستة وموطأ الإمام مالك.
وصنع الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـن نوعا آخر من الفهارس لكتب الحديث؛ فرتب الأحاديث على حروف المعجم باعتبار أوائل اللفظ النبوي الشريف، وعمل في ذلك كتابيه المشهورين (الجامع الكبير، والجامع الصغير). وفي العصر الحديث، وضع الشيخ محمد الشريف بن مصطفى التوقادي من علماء الأستانة، كتابين هما: مفتاح صحيح البخاري، ومفتاح صحيح مسلم، رتب في كل منهما الأحاديث على أوائل اللفظ النبوي الشريف، وأشار إلى موضع كل حديث في مفتاح البخاري بالأبواب والكتب، وبأرقام الأجزاء والصفحات لمتن البخاري وشروحه للعيني، وابن حجر، والقسطلاني. وفي مفتاح مسلم كذلك لمتن مسلم وشرحه للنووي. وأخيرا وضع المستشرق " إدوارد سنحو" ناظر مدرسة اللغات الشرقية ببرلين، للأقوال النبوية الشريفة الواردة في كتاب "الطبقات الكبير لابن سعد" فهرسا طبع في مدينة ليدن سنة 1329هـ.
وبهذا نعرف فن الفهرسة، ومتى ظهر عند المسلمين، كما نعرف أيضا أن هذا الفن أسهم في تسهيل الوقوف على المرويات في مصادرها الأصلية. ومن هنا جاء التفكير في التأليف في طرق التخريج؛ بتصنيفها، وبيان أهميتها، وإبراز مناهجها، وذكر أصنافها...الخ. فما هي طرق التخريج؟
تعريفها:
"هي مجموع الوسائل والآليات المساعدة على الوقوف على الأحاديث في مصادرها من كتب السنة التي روتها بالأسانيد المباشرة".
وأعني بالآليات: الوسائل التقليدية، وهي الكتب المؤلفة وفق مناهج متنوعة، تعين على معرفة مواضع الأحاديث في كتب الرواية، والوسائل الحديثة، المتمثلة في الأقراص المرنة والمضغوطة، ومواقع الإنترنيت، وغيرها من الوسائل الحديثة المساعدة على كشف مواضع الأحاديث.
أنواعها:
تنقسم طرق التخريج إلى خمس، تتوقف الإفادة منها على معرفة حال الباحث أمام النص الذي يريد الوقوف على مصادره؛ فإما أن يعرف الباحث أول لفظ من متن هذا النص، سواء أحفظه كله أم حفظ طرفه الأول فقط، أو أن يعرف راوي الحديث، إن كان صحابيا، أو من دونهن أو يعرف موضوع الحديث، أو يعرف متن الحديث أو بعضه، لكنه لا يعرف راويه، ويشكل عليه الموضوع الذي يدرجه فيه؛ وهذا إذا كان الحديث يشتمل على مباحث مختلفة وأحكام متنوعة، أو أن يكون الباحث في درجة راقية من العلم والمعرفة، والاطلاع على الأسانيد والمتون، وما يتعلق بذلك من علوم، فهذا قد يعرف مباشرة حال الحديث، ودرجته، وما فيه من علل أو شذوذ...الخ. وفيما يأتي تعريف موجز بهذه الطرق.
أولا: إذا كان الباحث يعرف موضوع الحديث. فإنه يستعين بمجموعة من المصادر المساعدة على كشف الحديث في مصادره الأصلية من كتب الرواية منها:
مفتاح كنوز السنة:
مؤلفه: الأستاذ ونسنك، وترجمه إلى العربية العلامة الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، وأسماه "مفتاح كنوز السنة".
موضوعه: جعله مؤلفه فهرسا لثلاثة عشر كتابا من أمهات كتب الحديث وهي: مسند الإمام أحمد بن حنبل، صحيح الإمام البخاري، صحيح الإمام مسلم، سنن الإمام الدارمي، سنن الإمام أبي داود، جامع الإمام الترمذي، سنن الإمام النسائي، سنن الإمام ابن ماجه، وهذه الثمانية هي أصول السنة، ومصادرها الصحيحة الموثوق بها، ويندر أن يكون حديثا صحيحا خارجا عنها ليس موجودا في أحدها. ثم موطأ الإمام مالك، ومسند أبي الإمام أبي داود الطيالسي، وهو من علماء القرن الثاني توفي سنة 204هـ، ثم سيرة ابن هشام المتوفى سنة 218هـ، وهي اختصار وتهذيب لأول كتاب ألف في السيرة، وهو كتاب محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151هـ. ثم كتاب المغازي للإمام محمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة 207هـ، ثم أعظم كتاب جمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتراجم الصحابة والتابعين فمن بعدهم، كتاب "الطبقات الكبير" للإمام الحافظ الثقة، محمد بن سعد، وهو تلميذ الواقدي وكاتبه.
والكتاب الرابع عشر: المسند النسوب للإمام زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، المتوفى سنة 122هـ، وهو عمدة في الفقه عند علماء الزيدية من الشيعة، ولو صحت نسبته إلى الإمام زيد، لكان أقدم كتاب موجود من كتب الأئمة المتقدمين. غير أن الراوي له عن زيدن رجل لا يوثق بشيء من روايته عند أئمة الحديث، وهو أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي: رماه العلماء بالكذب في الرواية، قال الإمام أحمد: "كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة".
ترتيبه: رتب الأستاذ ونسنك كتابه على المعاني والمسائل العلمية والأعلام التاريخية؛ فقسم كل معنى أو ترجمة إلى الموضوعات التفصيلية المتعلقة بذلك، ثم رتب عناوين الكتاب على حروف المعجم، واجتهد في جمع ما يتعلق بكل مسألة من الأحاديث والآثار الواردة في هذه الكتب: فاعتمد في مسند الطيالسي على طبعة حيدرآباد سنة 1321هـ، وفي مسند زيد على طبعة ميلانو سنة 1919م، والأحاديث في الكتابين لها أرقام متتابعة، فأشار إلى أرقامها فيهما.
واعتمد في مسند الإمام أحمد على طبعة القاهرة سنة 1313هـ، وفي طبقات ابن سعد على طبعة ليدن سنة 1904 و1908م، وفي سيرة ابن هشام على طبعة غوتنغن سنة 1859-1860م، وأشار إلى أرقام الصفحات في كل منها.
ولكثرة الطبعات في سائر الكتب الستة والموطأ والدارمي، اعتمد على أرقام ابتدعها لكل واحد باصطلاح له أبان عنه في مقدمة كتابه: وذلك أنه قسم كلا منها ـ ما عدا الصحيحين، والموطأ ـ إلى كتب أو مجموعات للأبواب، وكل كتاب إلى الأبواب التي ذكرها مؤلفهن وجعل لكل كتاب منها رقما متتابعا، ثم لكل باب من كل كتاب رقما متتابعا، وأشار لإلى مواضع الأحاديث بأرقام الكتب والأبواب، إلا في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وهو المرقم برقم (65) فاعتمد على عدد سور القرآن، وأشار إلى كل سورة برقمها في موضعها من المصحف.
أما صحيح البخاري، فإن طبعة ليدن فيها أرقام الكتب والأبواب من عمل مصححها. وأما صحيح مسلم، فإنه ليس فيه تراجم للأبواب من عمل مؤلفه، بل التراجم التي كتبت علي حاشيته، من وضع الشراح الذين جاءوا بعده، وأهمهم الإمام النووي رحمه الله. ويوجد في صحيح مسلم كثير من المتابعات، وهي الأسانيد التي يروى بها حديثا تأكيدا للإسناد الأول الذي رواه به؛ فالراوي الثاني يتابع الراوي الذي ذكر قبله في روايته ويؤيده، فرأى الأستاذ ونسنك أن يعتبر الأحاديث الأصول في الأبواب ويدع الإشارة إلى المتابعات، ورقم الأحاديث الأصول في كل كتاب من كتب صحيح الإمام مسلم بأرقام متتابعة يشير إليها في كتابه.
وأما موطأ الإمام مالك، فقسمه إلى كتب؛ لأنه لم يكن مقسما تقسيما واضحا، ثم وضع أرقاما متتابعة للكتب والأحاديث فقط، وترك ما لا يحتوي إلا آراء الإمام مالك وغيره من الأئمة، لأنها ليست من مقاصد هذا الفهرس. والطبعات التي اعتمد عليها في تقسم الكتب والأبواب في الكتب الثمانية هي:
ـ البخاري: طبعة ليدن سنة 1862- 1868 و 1907-1908.
ـ مسلم: طبعة ليدن بولاق سنة 1290هـ
ـ أبو داود: طبعة القاهرة سنة 1280هـ.
ـ الترمذي: طبعة بولاق سنة 1292هـ.
ـ النسائي: طبعة القاهرة سنة 1312هـ.
ـ ابن ماجه: طبعة القاهرة سنة 1313هـ.
ـ الدارمي، طبعة دهلي سنة 1337هـ.
ـ الموطأ: طبعة القاهرة سنة 1297هـ.
وقد وضع الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي جداول مفصلة للكتب والأبواب والأحاديث في كل كتاب من هذه الكتب الثمانية، لتكون مرشدا للقارئ يستعين بها على البحث عما يريد من الأحاديث.
فائدته:
كان الباحث يجد عناء كبيرا في الوصول إلى طلبته من هذه الكتب؛ فمسند الإمام أحمد مثلا، فيه أكثر من ثلاثين ألف حديث، وأحاديثه ليست مرتبة على البواب، فكيف يصل فيه الباحث إلى حديثه وهو لا يجد دليلا يرشده إليه؟ وهذا طبقات ابن سعد في ثماني مجلدات، كله في تراجم الأعلام، والمؤلف يروي أحاديث كثيرة في أثناء التراجم، فكيف يصل إليها الباحث غن لم يجد دليلا يرشده إليها؟
يقول الشيح أحمد شاكر رحمه الله مبينا أهمية هذا الكتاب، ومصورا معاناته قبل طبعه: "وها أنا أشتغل بعلوم الحديث وكتبه منذ خمس وعشرين سنة، وقد تلقيت كثيرا منها سماعا وقراءة عن الأعلام وكبار الشيوخ [...] ومع ذلك فإني طالما أعياني تطلب بعض الأحاديث في مظانها، وأغرب من هذا أني لبثت نحو خمس سنين وأنا أطلب حديثا معينا في سنن الترمذي، وهو كتاب تلقيته كله عن والدي سماعا، ولي به شبه اختصاص وكبير عناية".
يتبع..