اتخذ اللقاء بين الشرق والغرب أشكالاً وألواناً مختلفة، تختلف باختلاف أطراف المواجهة والظروف والأمكنة، ومن الطبيعي أنه كان ينتج عن هذه اللقاءات ـ سلماً كانت أو حرباً ـ إفرازات وتداعيات على مختلف المستويات، وقد تفاوتت حلقات التواصل بين الشرق والغرب، ففي زمن الحروب الصليبية لم يكن الامتزاج الحضاري بين المسيحية والإسلام في الشام على المستوى نفسه الذي كان عليه في الأندلس وصقلية، وذلك لافتقار المملكة اللاتينية في القدس إلى مركز علمي كبير للمعارف الإسلامية التي يستطيع المسيحيون أن يستمدوها منه على غرار طليطلة وبلرمو، ولكن هذا لم يمنع بعض العلماء والتجار والمحاربين الصليبيين، أن ينقلوا عن طريق المشاهدة العينية، بعض المعارف عن الزراعة والملاحة والصناعة.. الخ من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا، وذلك باعتبار أن العلاقات بين طرفي المواجهة لم تكن دائماً قائمة على الحرب والقتال، بل شهدت في أحيان كثيرة فترات من الهدنة والسلام، خاصة بين المستعمرات الصليبية التي كانت تعيش وسط إمارات إسلامية داخل الشام مثل حلب ودمشق وحمص وحماة، إلى جانب القلاع والحصون مثل حصن شيزر الذي ما زالت أطلاله باقية على نهر العاصي في شمال الشام. ولذلك سنحاول تسليط الضوء على حركة الحروب الصليبية التي استغرقت مدة قرنين من الزمن، وكان لها إسهام في حركة التفاعل الحضاري بين الطرفين، لانزال نتلمَّس تداعياته حتى يومنا هذا.
ميادين تأثر الغرب بالمسلمين
وما ساهم في توثيق العلاقة بين المحتل الصليـبي والمواطنين، اعتماد الصليبيين على أهالي المنطقة من الصناع والفلاحين وغيرهم، باعتبار أن المساعدات التي كان الغرب يقدمها، كانت غير كافية، ومن اللافت للانتباه، أن الصليبيين قد تأثروا بالمسلمين خلال الحروب الصليبية، في ميادين كثيرة ومتنوعة، منها:
الناحية الاجتماعية
فمن الناحية الاجتماعية، نجد أنه نشأت علاقات زواج مع المواطنات المسيحيات من الموارنة والأرمن وبعض الأسيرات المسلمات، فنشأ عن هذه الزيجات جيل من المولَّدين عرف باسم بولانيPullan ، وقد غلب الطابع الشرقي على طبائع هؤلاء وعاداتهم، ومع الوقت، أخذ الصليبيون يكِّيفون حياتهم في الشرق حسب مقتضيات الحال والمناخ، فارتدوا الملابس الشرقية الفضفاضة واسعة الأكمام، وأطلقوا لحاهم، وأكلوا الأطعمة الشرقية، وسكنوا القصور والبيوت ذات الطراز الشرقي وما إلى ذلك...
الناحية الاقتصادية
أما من الناحية الاقتصادية، فقد استفادوا من المشرق الإسلامي استفادة كبيرة، ففي ميدان الزراعة، نقل الصليبيون عن المسلمين إلى أوروبا، زراعة بعض أنواع النباتات والثمار والفواكه التي لم يعرفوها من قبل، وسموها بأسمائها العربية، مثل السكر والأرز والليمون والقطن والسمسم.. الخ.
وفي ميدان الصناعة، اقتبسوا عن المسلمين بعض المصنوعات ونقلوها إلى بلادهم، مثل المنسوجات الحريرية الموشَّاة والأقمشة القطنية، هذا إلى جانب صناعة الورق والصابون والخزف والزجاج والحلي والعقاقير... الخ.
أما التحارة، فقد انتعشت بين الشرق والغرب بشكل لم يعرف من قبل، فكانت قوافل المسلمين ترد إلى الموانىء الصليبية على ساحل الشام تحمل سلع الشرق، كاللؤلؤ والأحجار الكريمة والعاج والعطور والبهار، وكان على تجار المسلمين عند دخولهم تلك الموانىء أن يدفعوا ضريبة على بضائعهم مقدارها قيراط على كل سلعة ثمنها دينار واحد (الدينار 34 قيراطاً). وكانوا يعاملون في تلك الموانىء معاملة طيبة، ولهم فيها خانات أو فنادق ينزلون فيها ببضائعهم ودوابهم. وكانت حركة التجارة مستمرة بين الجانبين، ولم تتوقف حتى في أوقات الحروب بينهم، وقد نص على ذلك الرحَّالة المعاصر ابن جبير عند قوله: "اختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، وأهل الحرب مشتغلون في حربهم، أما الرعايا والتجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحول سلماً أو حرباً".
وكان من نتائج ازدياد النشاط التجاري بين الشرق والغرب، أن ظهرت المدن التجارية في أنحاء أوروبا، وهي ظاهرة جديدة أدت إلى اجتذاب الفلاحين إلى المدن وانهيار النظام الإقطاعي.. كذلك ظهر نظام المصارف في تلك المدن التجارية، وكثيراً ما عاونت هذه البنوك الطبقات الحاكمة بالقروض المالية وتحالفت معها ضد رجال الإقطاع. وقد نتج عن هذه المعاملات المالية إصدار صرف يعرف بالصك أو الشيك، وكذلك البساتج ـ جمع بستاجة بمعنى الحوالة ـ، وهي أنظمة مشرقية الأصل.
الناحية العمرانية
ومن الناحية المعمارية العسكرية، نلاحظ أن العمارة الإسلامية أضافت إلى التراث الفني العالمي نظماً لم تكن معروفة من قبل، ما جعل لها في العصور الإسلامية طابعاً مميزاً. ومن أمثلة ذلك أشكال العقود، وأنظمة المساجد والمدارس والقصور والحمامات والأضرحة. كذلك ابتكر المسلمون المداخل ذات المرافق أو المنعطفات المتعددة في المدن والحصون الإسلامية. والغرض من ذلك التحكم في العدو المهاجم من باب الحصن عبر هذه الممرات الضيقة الطويلة الملتوية.
ولقد انعكس هذا الأسلوب المعماري العسكري على الحصون والقلاع التي شيدها الصليبيون في الشام أو في أوروبا بعد ذلك.
المؤرِّخون ودراسة الحروب الصليبية
أما من ناحية التأثير الثقافي، فإنه يبدأ منذ أن أخذ كل فريق يتعرف على الفريق الآخر، ويحاول أن يكتب عنه حاضره وماضيه. وقد أنجب عصر الحروب الصليبية نخبة من المؤرخين المعاصرين شرقيين وغربيين، كلٌّ يمثل وجهة نظره في تلك الحروب، فتوفرت لهذه الحقبة مادة خصبة لم يتوفر مثلها من قبل.
وعلى صعيد آخر، فإن هذا التأثير الثقافي ترك بصمات واضحة على كتابة أصل الحدث، وأعني به مصطلح "الحروب الصليبية"، فالمؤرخون القدامى أطلقوا على تلك الحروب اسم الحروب الفرنجية، ودلّوا بوضوح على أنها حرب قام بها الفرنجة، الذين كانوا يسكنون أوروبا، على الشرق الاسلامي، وتحديداً بلاد الشام، محاولين بذلك عدم زج الديانة المسيحية في هذا الصراع، ولكن هذه الحرب، وبالرغم من عملية التحييد هذه، اتخذت طابع الحرب الدينية، حيث جعلت البابوية وبعض الأمراء والملوك من الدين وقوداً لهذه الحملات، محاولين بذلك إخفاء أهدافهم الحقيقية، كما يمكننا الإشارة إلى أن بعض مسيحيي المشرق قاوموا مع المسلمين الغزو الإفرنجي، وذاقوا مثلهم من كؤوس علقمه وعذابه، ولا يستثنى من هؤلاء غير الموارنة الذين كانوا باعتراف كلود كاهن (أدق من كتب عن تاريخ تلك المرحلة) يميلون الى اعتبار الفرنجة بمثابة أبناء عمومتهم، لذا قاموا بدور المساعدين الرئيسيين للفرنجة، وسارعوا الى الارتباط رسمياً بكنيسة روما، ويلحق كاهن الأرمن بهذا الاستثناء، فقد تعاونوا معهم بنسب متفاوتة، أما بقية مسيحيي المشرق فلم يعاملهم الفرنجة معاملة تختلف عن معاملة المسلمين، بل ربما بالغوا في اضطهادهم لاعتقادهم بانتماء مسيحيي المشرق إلى كنائس هرطوقية مارقة لا يعترف بها البابا في روما كالنسطوريين واليعاقبة.
وفي المقابل، فإن هذا لا يعني نفي التهمة عن بعض المسلمين الذين تعاونوا مع الفرنجة، خاصة بعد إنشاء ممالك الشرق اللاتيني في بيت المقدس وصيدا وأنطاكية والرها، فقد كان لتلك الممالك علاقات تجارية ودبلوماسية وثقافية مع معظم الإمارات الإسلامية.
وقد وصلت أحلاف وتعاملات بعض المسلمين مع الفرنجة إلى درجة العمل في خدمة الأمراء والملوك الصليبيين، ضد المسلمين من أبناء جلدتهم ، وتعاطوا بيع أسلحة الدولة لهم بمعرفة السلطات الرسمية. وللأسف، فإن هذا الموضوع الشائك لم يكن يتناول دائماً بطريقة موضوعية، بل لقد لعبت ببعض المؤرخين الأهواء وتقاذفتهم العصبيات، فرموا بالتهم إلى مخالفيهم من أبناء الطوائف والمذاهب والملل الأخرى، محاولين في الوقت نفسه تبرئة المنتمين إلى منظومتهم الاعتقادية، أو المذهبية، متناسين أن العمالة يجب أن تغيب عن حاضرة الأمة، وعلى الجميع أن يقفوا في خندق المواجهة ضد المعتدي والغاصب.
الذاكرة المتبادلة بين الغرب والشرق
كانت العلاقات في القرن الحادي عشر الذي شهد أول غزوات الفرنجة للمشرق، وعلى حدِّ تعبير المؤرخ الفرنسي ميشيليه، "محكومة بالرعب" الذي تكرس بعشرات بل مئات الألوف من الضحايا، بحيث فاقت كل تصور، ولم يوازها في الوحشية إلا وحشية الفتك التتري والمغولي. فإبادة المدن المستباحة كانت تقليداً عادياً، ولم ينقذ في بعض المواقع مئات الآلاف من البشر إلاّ العوامل التي كان من شأنها أن تعزز السيطرة الفرنجية، وتساهم في إبقائهم وحفظ تواجدهم في تلك المنطقة. ويحكي ابن الفرات في تاريخه أن الفرنجة حينما استولوا على طرابلس وكانوا على وشك قتل كل من فيها جرياً على العادة، جاءهم أحد المسيحيين الخائفين على خراب الأرض وقال: ليس من الحكمة أن تقوموا بذلك، فهذه مدينة كبيرة، فمن أين لكم بالناس الذين سيقيمون فيها، وما ينبغي القيام به هو أن تفرضوا عليهم ضريبة الأعناق بعد أن تصادروا ممتلكاتهم وتجبروهم على السكن في المدينة ولا تسمحوا لهم بالخروج منها، وبذا يصبحون فيها كالمساجين فتستفيدون من إقامتهم فيها.
وسمع الفرنجة النصيحة، لكن بعد أن ذبحوا عشرين ألفاً من سكان طرابلس الشام، وأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب كانت موجودة في دار العلم التي أسَّسها فخر الملك بن عمار، الذي كان أثناء سقوط إمارته ومدينته في زيارة لبني منقذ في شيزر، الذين تجد في تصانيفهم وخصوصاً ـ أسامة بن منقذ ـ الكثير من أخبار الحروب الصليبية.
هذه الفظائع الفرنجية في بلاد الشام هي التي تفسر الموقف المتشدد من الغرب الذي رفع المسيحية كدين، وخاض حربه تحت شعار الصليب، وغيّبت العوامل الأخرى، وبترت جذورها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وقد توقفت حروب السلاح في نهاية القرن الثالث عشر بعد أن توقف الاحتكاك المباشر، ولم تتوقف ذاكرة الفرنجة عن حمل صورة الانسان العربي الغافل، وبالمقابل حمل العربي في وعيه صورة ذاك الغازي الذي مارس أبشع تلك الممارسات الدامية، وظلت هذه الصورة هي السائدة، والتي أيقظتها الأساطيل الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لتدخلها في دوامة جديدة ظلت نيرانها ملتهبة على اختلافها وتتخذ وقوداً لها من الحطب القديم.
لقد كان الشرق المنهزم عسكرياً هو المنتصر فكرياً، ودليل ذلك ما أثارته ترجمة أعمال ابن رشد والغزالي وابن ميمون في أوروبا، ولاحقاً بدأ تأثيرنا الفكري والثقافي يتراجع، ودخلت مجتمعاتنا في سبات عميق طيلة خمسة قرون، وفقدت الحيوية والحراك الاجتماعي الذي أنتج منظومة الافكار الراقية والمتسامحة ذات الطابع الانساني العام.
لقد قال فيليب فارج: إن كل ما تبقى من أزمنة الحروب الإفرنجية في الشرق بعض العيون الزرقاء وأعمدة رومانية مفككة في الكرك وصيدا وإسم عائلة رئيس أسبق للجمهورية اللبنانية (فرنجية) ورغيف مستطيل الشكل هو الرغيف الافرنجي.
ولا شك أن هذا الكلام يدل على محاولة من الكاتب لمحو الآثار السلبية التي نجمت عن الممارسات الوحشية التي ارتكبها الفرنجة في الشرق الإسلامي. وبعبارة أخرى، محاولة إزالة صورة تلك المجازر من وعي الإنسان العربي والمسلم، والتركيز على الجانب الشكلي، تمهيداً لتطويع العقل العربي، وإزالة تلك الصورة المرعبة من وعيه، عن طريق الانبهار تارة، وعن طريق فقدان وسائل الممانعة تارة أخرى.
ولم يتوان الغرب يوماً عن التآمر على أمة المسلمين ومحاربتها، سواء قبل الحروب الصليبية أو بعدها أو أثناءها, بل إن إحدى حروب الغرب مع الإسلام استمرت ألف عام في المغرب العربي، وأطلق عليها حرب الألف عام، ولم تكن الحقبة الاستعمارية إلا آخر حلقات هذا الصراع الدامي الممتد منذ ظهور الإسلام وحتى الآن, فقد كشفت حلقات هذا الصراع حقداً صليبياً غربياً عميقاً، وقد تجلى ذلك في ممارسات الفرنسيين الذين اقتحموا الأزهر إبان الحملة الفرنسية وجعلوه إسطبلا ً لخيولهم, وكذلك في إغلاق المساجد في الجزائر بعد احتلالها وتحويل بعضها إلى كنائس، وهم الذين قاموا بمحاولة القضاء على اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الشمال الأفريقي، ناهيك عن المجازر الوحشية التي ارتكبها هؤلاء وغيرهم في البلدان العربية والإسلامية المستعمرة.
ويذكر في هذا السياق قصة الجنرال اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر، الذي قال بعد أن دخل القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، بمعنى أنه الآن تم إخضاع المسلمين والسيطرة على مقدراتهم، بحيث لا تقوم لهم بعد اليوم قائمة، ولا أقل من ذلك قول الجنرال غورو الذي حضر دمشق في تموز 1920، حيث كان أول شيء فعله بعد دخوله دمشق وقمعه للدولة العربية الذهاب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، حيث قال: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. ووجودي هنا يعني أن الصليب انتصر على الهلال. كما تجدر الإشارة إلى حادثة مثيرة للدهشة، وهي حينما قام وفد أعيان المسيحيين أثناء الحرب الأهلية بزيارة القنصل الفرنسي في بيروت، وقالوا إنهم من أحفاد الفرنجة، وفي البداية عبَّر القنصل الفرنسي عن تعاطفه معهم، ولكنه أجابهم حينما طلبوا منه منحهم الجنسية الفرنسية قائلاً: أيها السادة، في الوقت الذي تتحدثون عنه لم تكن هناك جمهورية فرنسية.. ولهذا السبب لا أستطيع الاستجابة لطلبكم، وعليه أنهي اللقاء معكم.
وللدلالة على استحكام العقلية الاستعمارية بالعقل الغربي، ومدى تأثيرها في تحريك سياسته، نجد أن الدول الأوروبية كانت تتناسى خصوماتها إبَّان تعاطيها مع حركات التحرر، وليس أدلُّ على ذلك من قيام فرنسا بالتضحية بمصالحها في مصر عند اندلاع الثورة العُرابية الإسلامية، لدرجة أنها تركت لإنكلترا كل الكعكة في مقابل ذبح الثورة, ولعل قائمة الجرائم بحق شعوبنا العربية والمسلمة كبيرة جداً، وآخرها إقامة ودعم الكيان الصهيوني على حساب شعب فلسطين، وما قامت به أمريكا مؤخراً في العراق وأفغانستان، معتمدين لتحقيق ذلك سياسة القهر والعنف وامتصاص دماء الشعوب ونهب ثرواتها، وإبقائها سوقاً لترويج منتجاتهم ومنجماً للبترول والخامات لا أكثر ولا أقل. وتجارب التاريخ القريب والبعيد تؤكد أنه لن يسمح لنا بتحقيق أي قدر من النهضة. إنه يريدنا مجرد توابع، وحتى هو لا يقبل ولا يرضى أن نصبح جزءاً من منظومته الحضارية ونشارك في الإنتاج ونحصل على النتائج المرجوة.