الحنفي، المذهب. المذهب الحنفي هو المذهب الذي ينسب إلى مؤسسه
الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه الكوفي الذي تأثر بمن قبله من
علماء أهل الرأي. انظر: أبو حنيفة.
وكان أبو حنيفة يفتح الباب على مصراعيه أمام العمل بالقياس ـ أي الرأي
بمعناه الخاص ـ أما السُّنة فلا يقبلها إلا بشروط مشددة. لذا يطلق على
أصحاب هذا المذهب ¸مذهب أهل الرأي·، إذ إنهم يعطون حرية للعقل بكثرة
استعمال القياس والرأي؛ لذا فهم أقوياء في هذا الميدان، لكنهم ضعاف في
ميدان السنة؛ فهم أقوياء من حيث الدراية ـ كما يقال ـ وضعفاء من حيث
الرواية.
وكان لأتباع أبي حنيفة وتلاميذه المشهورين مثل أبي يوسف ومحمد
الشيباني والإمام زفر بن الهذيل والحسن ابن زياد اللؤلؤي الفضل في إثراء
المذهب الحنفي وتوسيع مسائله ومجالات تطبيقه.
انتشار المذهب. لعل من أهم العوامل التي
أدت إلى انتشار هذا المذهب في الماضي، هو تولي القضاة من الحنفية مهام
القضاء في الدولة العباسية. فلما تولى أبو يوسف ـ تلميذ أبي حنيفة ـ منصب
قاضي القضاة عام 170هـ في الدولة العباسية، بذل جهوداً كبيرة في نشر المذهب
الحنفي في كل أنحاء الدولة العباسية. وقد استمر الحال كذلك إلى ما بعد
انهيار الدولة العباسية؛ فقد اتخذته الدول الشرقية التي استقلت عن
العباسيين ـ مثل السلاجقة وآل بويه وغيرهم ـ مذهباً لهم في القضاء
والعبادات، حيث كانت ثقافتهم الإسلامية مستمدة من هذا المذهب ولا يعرفون
غيره.
ودخل هذا المذهب إلى بلاد إفريقيا الشمالية مثل: ليبيا، وتونس،
والجزائر، والمغرب عن طريق عبدالله بن فروخ وتلاميذه من بعده، وكذلك عن
طريق أسد بن الفرات بن سنان. ومع أن هذا المذهب دخل بلاد الأندلس، إلا أنه
لم يدم طويلاً لأن المذهب المالكي كان قد تغلغل في نفوس الأمراء والعامة.
أما في مصر، فقد انتشر هذا المذهب في عهد المهدي، عندما تولى القضاء
فيها إسماعيل بن اليسع عام 164هـ، ثم انتشر وتوسع ثانية في عهد صلاح الدين
الأيوبي بعد أن خفت سطوته في عهد الفاطميين الذين حاربوا هذا المذهب لبغضهم
للعباسيين. وكان أكثر ظهوراً في أواخر عهد الدولة الأيوبية. واستمر في قوة
الدفع هذه حتى في عهد دولة الشراكسة ودولة العثمانيين اللتين أصبح فيهما
هذا المذهب مذهب الحكام وبالتالي القضاة، ورغب فيه العلماء وكثير من أهل
العلم لأنه كان الطريق لتولي منصب القضاء. وكان أن دخل هذا المذهب طور
التقنين في مصر؛ فأصبح قانوناً يعمل به في كثير من أمور القضاء وخاصة ما
يتعلق منها بقضايا الأحوال الشخصية، ولا يزال يعمل بذلك في مصر حتى اليوم.
وكان المذهب الحنفي متمكناً في الشام وما حولها ـ ولا يزال هو الغالب
فيها ـ وكذلك في بلاد العراق التي كان ينازعه فيها أحياناً المذهب
الشافعي. كما انتشر في بلاد: أرمينيا، وأذربيجان، والهند، والصين حيث لا
منافس له في بلاد الهند والصين، ويكاد يكون هو المنفرد فيهما.
أما في بلاد الحجاز واليمن ودول الجزيرة العربية، فليس فيها إلا
القليل ممن يتبعون هذا المذهب، لعل أكثرهم من الوافدين من المسلمين وليسوا
من سكان البلد الأصليين. ولا يوجد إلا فئة قليلة تتبع هذا المذهب اليوم في
بلدان الشمال الإفريقي. أما في مصر، وإن كانت الغلبة للفقه الشافعي ثم
المالكي في الجنوب، إلا أن هناك عدداً كبيراً من عامة الناس يتبعون هذا
المذهب، وهو بالطبع مذهب الدولة المتبع في الفتوى.
وللمذهب الحنفي انتشار واسع وغلبة مطلقة في: تركيا، وألبانيا، وبلاد
البلقان (البوسنة والهرسك وكوسوفو) وأفغانستان وتركستان والهند وباكستان
وبلاد القوقاز والبرازيل.
أدلة الأحكام عند الأحناف. الأدلة
الفقهية عند الأحناف، أو الأصول التي يستنبطون منها الأحكام سبعة (أ)
القرآن (ب) السنة (جـ) الإجماع (د) قول الصحابي (هـ) القياس (و) الاستحسان
(ز) العرف.
في القرآن، روي أن أبا حنيفة كان قد أفتى بجواز قراءة القرآن في
الصلاة بغير العربية، ويقال إنه رجع عن هذا الرأي. والسبب في رأيه الأول
كان كثرة الداخلين في الإسلام من غير العرب الذين لا يحسنون النطق
بالعربية.
وفي السنة، فإن الأحناف يقسمون الأحاديث النبوية إلى أقسام: (أ)
المتواتر؛ وهو عندهم حجة قد رواه قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم
وعدالتهم (ب) مشهور؛ وهو ما نزل عن المتواتر في أول سنده فقط، ثم انتشر
فصار ينقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب في القرون الثلاثة الأولى (جـ)
آحاد؛ وهو كل حديث ليس بمتواتر ولا مشهور، وهو يفيد الظن. واحتج الأحناف به
وعدلوا آراءهم على مقتضاه، وهو عندهم يقبل في أمور الدين (د) مرسل؛ وهو
حجة معتمدة في هذا المذهب (هـ) ضعيف. ومن المعلوم أن عامة الفقهاء
والمحدثين يقولون إن الأحكام الشرعية لا يصلح لبنائها الحديث الضعيف، إلا
أن الحنابلة ذهبوا إلى بناء الأحكام الشرعية على الضعيف وقدموه على الرأي
والقياس.
وفي الإجماع، يعتبر الأحناف هذا المبدأ أصلاً من أصول فقهم، ويبنون عليه اجتهاداتهم. وهذا الإجماع عندهم نوعان: إجماع صريح، وإجماع سكوتي
(ضمني). فالصريح بالقول أو الفعل. أما السكوتي (الضمني) فهو أن ينتشر بين
المجتهدين أن بعضهم قد ذهب إلى رأي اجتهادي بالقول أو بالعقل، وتنقضي مدة
التأمل، ويسكت الجميع عن الاعتراض على هذا الرأي أو مخالفته.
أما فيما يختص بقول الصحابي، فإن الأحناف يعتبرونه واجب الاتباع.
وقول الصحابي عند الأحناف حجة، وهو مقدم على القياس. وقد كان لاجتهاد أبي
حنيفة وطريقته في فهم الأحاديث أن يكثر من القياس ويفرع منها الفروع؛ لأنه
كان يفترض المسائل التي لم تقع افتراضاً، ويستنبط لها أحكامها، ويعمم هذه
الأحكام، ومن ثم يطبقها على المسائل التي افترضها، حتى اعتبر من أول
الفقهاء الذين أكثروا من الفقه الافتراضي.
أما فيما يتعلق بالاستحسان، فإن الأحناف يكثرون منه، وهو عندهم أربعة
أقسام (أ) استحسان السنة؛ وهو العدول عن حكم القياس إلى حكم مخالف ثبت
بالسنة (ب) استحسان إجماع؛ وهو العدول عن مقتضى القياس إلى حكم آخر انعقد
عليه الإجماع (جـ) الاستحسان القياسي؛ وهو العدول عن حكم القياس الظاهر إلى
حكم قياس آخر أدق وأخف وأقوى حجة (د) استحسان الضرورة؛ وهو العدول عن حكم
القياس لضرورة موجبة، أو مصلحة معتبرة دفعاً للمشقة والحرج.
ويعتبر الأحناف العرف أصل من أصول الاستنباط، وأنه يقوم بمثابة الدليل حيث لا يوجد دليل شرعي من الكتاب أو السنة.
خصائص المذهب الحنفي وطابعه. يتميز
المذهب الحنفي بخصائص ينفرد بها وحده دون سائر المذاهب. من ذلك الإكثار من
التفريع، وفرض المسائل التي لم تقع؛ حيث كان أبو حنيفة يفتي في مسائل لم
تقع ويفترض وقوعها. ومن ذلك أن الاجتهاد في هذا المذهب ليس اجتهاداً
فردياً، وإنما اجتهاد جماعة، كما كان يحدث مع الإمام أبي حنيفة وتلاميذه؛
فقد كانت حلقته مع تلاميذه مجلس شورى، يتناقشون في المسألة، ثم إذا وصلوا
إلى اتفاق دونوها. ومن ذلك امتزاج الحديث بالرأي في هذا المذهب.
لقد ترك علماء الأحناف ثروة فقهية كبيرة اشتملت عليها كتب المذهب الحنفي الذي من أشهرها: كتب ظاهر الرؤية السنة؛ والسير الكبير؛ والمبسوط؛ وبدائع الصنائع وغيرها.
وتميز بعض علماء هذا المذهب بما يسمى بباب الحيل الشرعية؛ فقد رويت
عن الأحناف مسائل في هذا الباب أكثرها في باب الأيمان والطلاق. ولم يكن
القصد منها ـ بالطبع ـ التحايل على إبطال الحق أو إحقاق الباطل، وإنما كان
القصد منها استنباط فقهي للخروج من مأزق ما مع عدم التعدي على أحد في نفسه
أو ماله. من ذلك ما روي أن رجلاً حلف أن يجامع زوجته في نهار رمضان، فيفتيه
أبو حنيفة بأن يسافر بها في نهار رمضان وغير ذلك كثير.
كما يمتاز هذا المذهب بالمرونة في أخذه بالقياس، والتيسير في
العبادات، ويعد ذلك من الدعائم التي قام عليها التشريع الإسلامي. كما يمتاز
بتصحيح تصرفات الإنسان كلما أمكن ذلك، واحترام حرية إنسانية الإنسان. كما
أنهم لا يفتون بالحَجْر إلا في حالة الجنون أو صغر السّن ولا يجوزونه على
السفيه.