الماضي، هو رصيد التجارب الوحيد الذي
يملكه كل إنسان، وهو الأكثر أثراً فيه. وشدة أثر الماضي تنبع من تراكم
تجاربه، فلا يمكن أن يصل الإنسان لنفس حاضره الحالي، فيما لو كان له ماض
آخر. وهذا بديهي، فالحياة عبارة عن لبنات، حيث اللبنات الأولى ستدعم
اللبنات الأعلى، وهكذا. فكلنا بشكل أو بآخر، من نتاج ماضينا.
ولأننا نتاج ماضينا، فكان لابد لكل إنسان
أن يحدد موقفه من ماضيه باستمرار. وفي هذا نجد طيف واسع معقد من التفاعل مع
الماضي. من إنسان “يعتز” بماضيه إلى حد القداسة، ويريد أن يواصله. وإنسان
“يتنكر” لماضيه ويتمنى أنه لم يكن، بل ويبذل قصارى جهده لتكريس صورة مختلفة
عن ماضيه. وبين هذا وذاك يختلف تقييمنا لهذه المواقف حسب نظرتنا الشخصية،
لكن دعونا نتفق أن الحد الأدنى من الموقف المثالي هو أن الإنسان يجب أن
يكون صادقاً مع نفسه، موضوعياً تجاه غيره، ملتزماً بأخلاقياته ومبادئه
الشريفة من غير أن يدنسها بالمصالح والعلاقات.
لكن، هذا الحد المثالي صعب وعزيز، والوصول إليه بحاجة لتجرد شديد، وتضحية
كبيرة لأنه يتطلب مواجهة صريحة مع النفس. والأصعب من ذلك هو الالتزام به.
ومن هنا، اختلفت ردود أفعال الناس مع ماضيهم وتجاربهم السابقة اقتراباً أو
ابتعاداً عن الحد المثالي. وهذه المسافة بين واقع الناس في التعامل مع
ماضيهم وبين الحد المثالي، تولد آثار نفسية سلبية تزداد مع ازدياد المسافة
وتتراكم مع تراكم التجارب. إلى درجة أنها تتدخل في محيط الأفكار لدى الشخص،
وتمارس نوعاً من التوجيه والانتقائية لآرائه وعلاقاته، وتستبد بعقله أيما
استبداد.
دعوني أذكر حادثة، أوضح بها جزء مما
أقوله. قبل يومين، كنت في نقاش مع أحدهم (من رجيع الصحوة، أو الاكس-مطوع)
حول أوضاع البلد الاجتماعية والدينية، وكان من ضمن ما قاله لي “والله
هالمشاكل كلها بسبب الصحوة” يقصد المشاكل المرتبطة بالواقع الاجتماعي
والديني. هنا، أنا توقفت عن النقاش في الموضوع، وذهبت مباشرة أناقش الذات،
حيث وجهت نصيحة أخوية لصديقي هذا قائلاً له “نحن نقرأ ونناقش ونتفاعل،
ودائماً نتصور أننا نقوم بذلك عن قناعة داخلية مؤمنين بها. لكن الكارثة
تحصل -من غير أن ننتبه- حينما يدفعنا لمثل هذه المواقف والرؤى شعور نفسي
مرتبط بماضي معين، متجاهلين الحقيقة الموضوعية ذاتها ومدى صحتها، لأننا
حينئد نصرح بشكل ما أننا ما زلنا أسرى لماضينا وتجاربنا. وحينها لن نكون
قادرين على تقييم أفكارنا، ولا تطويرها، ولن نكون حتى قادرين على الحوار مع
الآخرين بشكل مثمر”.
ليس بالضرورة أن يكون هذا الأخ مطوع سابق
حتى تكون له تجربة معينة تؤثر فيه، فقد يكون أبعد الناس عن الصحوة
والصحويين لكنه في نفس الوقت يمتلك موقفاً مضاداً من وقت مبكر يجعله يستمر
على رأيه، لذا، فالأشكال التي يمكن أن يحضر بها الماضي إلى عقولنا، هي
إشكالية أخرى.
ومن هنا، فمشكلة الماضي أنه يتلبس بأثواب
فكرية عديدة ومتناقضة وبكل سهولة ليزيف وعينا وإدراكنا الموضوعي للقضايا.
فمن جانب قد يتلبس الماضي بفكرة كالثورة على السائد أو حرية الرأي أو أهمية
النقد أو غيرها من أدوات، لكي يدفعنا إلى خطوة لم نحسب لها حساباً. فالبعض
تراه مثل الهارب من ماضيه وعينه إلى الماضي، هو لا يهرب من ماضي إلى حاضر
جديد، بقدر ما يريد أن يستمر هارباً من الماضي. إذ كلما رأى انعكاساً
للماضي إلا ارتفعت لديه علامات الحذر، وبدأ هروبه بكيل العبارات المعلبة في
ماضيه، وكيف أن الله من عليه بالهداية. ومن جانب آخر قد يتلبس الماضي
بفكرة “المجد القديم” ليتم تقديسه وتضخيمه ويعلو بذلك فوق الواقع والنقد.
ومن هنا تبدأ نبرة التغني بالماضي، وبالأمجاد السابقة، كما يستمر الشعور
الدائم بالحنين والرغبة في العودة حتى لو كانت عودة ظاهرية سطحية. وكلما
رأى البعض انعكاساً ضد ماضيه تبدأ الإحالات إلى ماضيه، وماذا كانوا يفعلون
حينها.. ، وهكذا لا يكون الحنين إلى الماضي هروباً من الحاضر بقدر ماهو
رغبة البقاء في الماضي.
فالمقصود أن ردود أفعالنا في أحيان عديدة،
ليست حماساً بذات الموضوع “الجديد والحاضر” ، بقدر ماهي إما انقلاب على
الماضي، أو تكريساً له أو أي ردة فعل تجعل من الماضي محوراً لها.
ما أريد أن أصل إليه، هو أنه لا مناص من
تقبل ماضينا كما هو بكل ترحاب، ولايوجد طريقة صحية سوى أن نؤمن بأن
شخصياتنا في الماضي تختلف عن أفكارنا، فمهما اختلفت أفكارنا ومهما تحولنا
ذات اليمين وذات الشمال، إلا أن شخصياتنا “جوهرنا” ستظل المركب الوحيد
الذي نشق به عباب الحياة، فعلام التنكر لها ولماضيها !؟
وختاماً، وأقولها كنصيحة لوجه الله، إذا
كنت في حوار مع أحدهم، وشعرت باندفاع وحماس لفكرته على “غير العادة”، فأول
نصيحة لي هي أن تتوقف عن حوارك…
وتفتش عن الماضي.