ملخص في أحكام الحجر والإفلاس
السؤال :
أرغب في معرفة ما إذا كان يجوز في الإسلام إشهار الإفلاس أم لا ؟ وإذا
تقدمتُ مشهراً إفلاسي مدركاً أن الديْن لا يزال ديْني أنا فلمن أرد المال
عندما يكون في وسعي ذلك ؟ وما هي توجيهاتكم في هذا الشأن ؟ .
الجواب :
الحمد لله
المفلس هو من يكون دَيْنه الذي عليه أكثر من المال الذي معه .
فإذا طلب الغرماء (الدائنون) من الحاكم أن يحجر عليه ، ويقسم عليهم المال الذي معه
، وجب عليه إجابتهم إلى ذلك .
قال
الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في بيان أحكام الحجر والمفلس :
"1.
معنى الحجر في الشرع : منع إنسان من تصرفه في ماله .
ودليله من القرآن الكريم : قوله تعالى : (وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً *
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)
النساء/5 ، 6 ، فدلت الآيتان على الحجر على السفيه واليتيم في ماله ; لئلا يفسده
ويضيعه , وأنه لا يدفع إليه إلا بعد تحقق رشده فيه ، وقد حجر النبي صلى الله عليه
وسلم على بعض الصحابة لأجل قضاء ما عليه من الديون .
2.
والحَجر نوعان :
النوع الأول : حجر على الإنسان لأجل حظ غيره , كالحجر على المفلس لحظ الغرماء .
النوع الثاني : حجر على الإنسان لأجل مصلحته هو ; لئلا يضيع ماله ويفسده , كالحجر
على الصغير والسفيه والمجنون .
3.
النوع الأول : الحجر على الإنسان لحظ غيره ، والمراد هنا : الحجر على المفلس ,
والمفلس : هو من عليه ديْن حالٌّ لا يتسع له ماله الموجود , فيُمنع من التصرف في
ماله ; لئلا يضر بأصحاب الديون .
أما
المدين المعسر الذي لا يقدر على وفاء شيءٍ من ديْنه : فإنه لا يطالب به , ويجب
إنظاره ; لقوله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ )
.
أما
من له قدرة على وفاء ديْنه : فإنه لا يجوز الحجر عليه ؛ لعدم الحاجة إلى ذلك , لكن
يؤمر بوفاء ديونه إذا طالب الغرماء بذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مطل الغني
ظلم ) أي : مطل القادر على وفاء ديْنه : ظلم ; لأنه منع أداء ما وجب عليه أداؤه من
حقوق الناس , فإن امتنع من تسديد ديونه : فإنه يسجن ، قال الشيخ تقي الدين ابن
تيمية رحمه الله : " ومَن كان قادراً على وفاء ديْنه , وامتنع , أجبر على وفائه
بالضرب والحبس , نصَّ على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم " , قال
: " ولا أعلم فيه نزاعاً " انتهى .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لي الواجد ظلم يُحلُّ عرضَه وعقوبتَه ) رواه
أحمد وأبو داود وغيرهما , وعِرضه : شكواه , وعقوبته : حبسه ; فالمماطل بقضاء ما
عليه من الحق يستحق العقوبة بالحبس والتعزير , ويكرر عليه ذلك حتى يوفي ما عليه ,
فإن أصر على المماطلة : فإن الحاكم يتدخل فيبيع ماله ويسدد منه ديونه ؛ لأن الحاكم
يقوم مقام الممتنع , ولأجل إزالة الضرر عن الدائنين , وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
4.
ومما مرَّ يتضح أن المدين له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون الديْن مؤجَّلاً عليه ، فهذا لا يطالب بالديْن حتى يحلَّ ,
ولا يلزمه أداؤه قبل حلوله , وإذا كان ما لديه من المال أقل مما عليه من الدين
المؤجل : فإنه لا يحجر عليه من أجل ذلك , ولا يمنع من التصرف في ماله .
الحالة الثانية : أن يكون الدين حالاًّ .
فللمدين حينئذ حالتان :
الأولى : أن يكون ماله أكثر من الديْن الذي عليه : فهذا لا يُحجر عليه في ماله ,
ولكن يؤمر بوفاء الديْن إذا طالب بذلك دائنه , فإن امتنع : حُبس وعزِّر حتى يوفي
ديْنَه , فإن صبر على الحبس والتعزير , وامتنع من تسديد الدين : فإن الحاكم يتدخل
ويوفي ديْنه من ماله ، ويبيع ما يحتاج إلى بيع من أجل ذلك .
والثانية : أن يكون ماله أقل مما عليه من الديْن الحالِّ ; فهذا يُحجر عليه التصرف
في ماله إذا طالب غرماؤه بذلك ; لئلا يضر بهم ; لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه :
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله) رواه الدارقطني والحاكم
وصححه , وقال ابن الصلاح : " إنه حديث ثابت " , وإذا حجر عليه في هذه الحالة : فإنه
يُعلن عنه , ويظهر للناس أنه محجور عليه ; لئلا يغتروا به ويتعاملوا معه , فتضيع
أموالهم .
5.
ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام :
الحكم الأول : أنه يتعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر , وبماله الحادث بعد
الحجر ; فيلحقه الحجر كالموجود قبل الحجر , فلا ينفذ تصرف المحجور عليه في ماله بعد
الحجر بأي نوع من أنواع التصرف , وحتى قبل الحجر عليه يحرم عليه التصرف في ماله
تصرفا يضر بغرمائه .
قال
الإمام ابن القيم رحمه الله : " إذا استغرقت الديون ماله : لم يصح تبرعه بما يضر
بأرباب الديون , سواء حجر عليه الحاكم أو لم يحجر عليه , هذا مذهب مالك واختيار
شيخنا – يريد : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - " , قال : " وهو الصحيح , وهو
الذي لا يليق بأصول المذهب غيره , بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده ؛ لأن حق الغرماء
قد تعلق بماله , ولهذا يحجر عليه الحاكم , ولولا تعلق حق الغرماء بماله , لم يسع
الحاكم الحجر عليه , فصار كالمريض مرض الموت , وفي تمكين هذا المدين من التبرع
إبطال حقوق الغرماء , والشريعة لا تأتي بمثل هذا ; فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب
الحقوق بكل طريق , وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها " انتهى كلامه رحمه الله .
الحكم الثاني : أن من وجد عين ماله الذي باعه عليه أو أقرضه إياه أو أجره إياه قبل
الحجر عليه : فله أن يرجع به ويسحبه من عند المفلس ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (
من أدرك متاعه عند إنسان أفلس فهو أحق به ) متفق عليه ; وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله
أنه يشترط لرجوع من وجد ماله عند المفلس المحجور عليه ستة شروط :
الشرط الأول : كون المفلس حيّاً إلى أن يأخذ ماله منه ; لما رواه أبو داود أنه صلى
الله عليه وسلم قال : ( فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء ) .
الشرط الثاني : بقاء ثمنها كله في ذمة المفلس , فإن قبض صاحب المتاع شيئاً من ثمنه
: لم يستحق الرجوع به .
الشرط الثالث : بقاء العين كلها في ملك المفلس , فإن وجد بعضها فقط : لم يرجع به ;
لأنه لم يجد عين ماله , وإنما وجد بعضها .
الشرط الرابع : كون السلعة بحالها , لم يتغير شيء من صفاتها .
الشرط الخامس : كون السلعة لم يتعلق بها حق الغير ; بأن لا يكون المفلس قد رهنها
ونحو ذلك .
الشرط السادس : كون السلعة لم تزد زيادة متصلة كالسِّمَن , فإذا توافرت هذه الشروط
: جاز لصاحب السلعة أن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده ؛ للحديث السابق .
الحكم الثالث : انقطاع المطالبة عنه بعد الحجر عليه إلى أن ينفك عنه الحجر , فمن
باعه أو أقرضه شيئا خلال هذه الفترة : طالبه به بعد فك الحجر عنه .
الحكم الرابع : أن الحاكم يبيع ماله , ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالَّة ; لأن
هذا هو المقصود من الحجر عليه , وفي تأخير ذلك مطل وظلم لهم , ويترك الحاكم للمفلس
ما يحتاج إليه من مسكن ومؤنة ونحو ذلك .
أما
الدين المؤجل : فلا يحل بالإفلاس , ولا يزاحم الديون الحالَّة ؛ لأن الأجل حق
للمفلس ، فلا يسقط ، كسائر حقوقه , ويبقى في ذمة المفلس , ثم بعد توزيع ماله على
أصحاب الديون الحالة : فإن سدَّدها ولم يبق منها شيء : انفك عنه الحجر بلا حكم حاكم
; لزوال موجبه , وإن بقي عليه شيء من ديونه الحالة : فإنه لا ينفك عنه الحجر إلا
بحكم الحاكم ; لأنه هو الذي حكم بالحجر عليه , فهو الذي يحكم بفك الحجر عنه" انتهى
باختصار .
"
الملخص الفقهي " ( 2 / 89 – 95 ) .
وإذا بقي شيء من الديون لم تسدد لأصحابها فإنها تبقى في ذمته ، حتى يرزقه الله
تعالى مالاً ، فيجب عليه سداد ما بقي من هذه الديون .
وانظر جواب السؤال رقم (
127591 ) .
والله أعلم