موقفنا من اختلاف الأئمة في مسألة تغطية الوجه
بصراحة قضية مهمة تؤرقني ، وهي ما معنى اختلاف
الأئمة في قضية معينة ؟ فإذا قلت لشخص ما إن الشيخ فلان قال إن ذلك الشيء
حرام ، قال لي : إن هذا في مذهبه هو ، أو مذهب بلاده ، ونحن نتبع مذهبا آخر
يقول إنه حلال ، وهذا التفكير أوصلني إليه قضية الحجاب معي ، فمثلا البلد
الذي أنتمي إليه مذهبه المالكية الذي يقول أئمته إن ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا )
هو الوجه والكفان ، أضف إلى ذلك أن الخمار شبه محرم في بلدي ، يعني لا
يمكن أبدا أن تمارس به حياتك اليومية ، كالذهاب به إلى العمل أو المدرسة ،
وهناك قرارات تمنعه هو والقفازات ، رغم أني شخصيا مقتنعة تمام الاقتناع
بالخمار ، ولكني لا أستطيع أبدا ارتداءه ، فما حكمك في ذلك ؟ لأني كلما
سمعت أشرطة الحجاب للمشايخ الذين من مذهب آخر ، أحس أن حجابي ليس شرعيّاً ،
وأفهم من كلامهم أني الآن سافرة ومتبرجة ومسببة للفتنة في هذه الأمة ،
فماذا نفعل ونحن حيارى بين هذا وهذا ؟.
الحمد لله
أولاً :
كان المسلمون في زمن الوحي يتلقون أحكام الدين عن النبي صلى الله
عليه وسلم من خلال آيات القرآن الكريم وأحاديثه النبويَّة الشريفة ، ولذلك لم يقع
الخلاف بينهم إلا في أشياء يسيرة ، وإن وقع فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين
لهم وجه الصواب .
ثم لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر الصحابة في الآفاق
يعلِّمون الناس الدِّين ظهر الخلاف في بعض مسائل الفقه التي احتاج الناس إليها على
اختلاف مكانهم وزمانهم ، وكان لهذا الخلاف مجموعة من الأسباب ، نلخصها هنا من كلام
أهل العلم :
1. أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه .
2. أن يكون الحديث قد بلغ العالِم ، ولكنه لم يثق بناقله ، ورأى
أنه مخالف لما هو أقوى منه ، فأخذ بما يراه أقوى منه .
3. أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه .
4. أن يكون بَلَغَهُ وفهم منه خلاف المراد .
5. أن يكون قد بلغه الحديث ، لكنه منسوخ ، ولم يعلم بالناسخ .
6. أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع .
7. أن يأخذ العالِم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً .
وينظر في تفصيل هذه الأسباب ، وذِكر غيرها : " رفع الملام عن
الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية " و " الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا
منه " للشيخ العثيمين .
ونظن بهذا الذي سقناه من أسباب الخلاف بين العلماء أن معنى
اختلاف الأئمة في مسائل الفقه أصبح ظاهراً عندكِ إن شاء الله .
ثانياً :
ما هو موقف المسلم تجاه الخلاف الذي يكون بين العلماء ؟ وبعبارة
أخرى : بأي قول يأخذ المسلم من أقوال أهل العلم التي اختلفوا إليها ؟ الجواب فيه
تفصيل :
1. إذا كان المسلم ممن درس العلم الشرعي وتعلم أصوله وقواعده ،
ويستطيع أن يميز الخطأ من الصواب من أقوال أهل العلم : فإن الواجب عليه أن يتبع ما
يراه صوابا ، ويترك ما يراه خطأ .
2. أما إذا كان من العامة ، أو ممن لم يدرسوا العلم الشرعي ،
وعليه : فهو لا يفرِّق بين صواب الأقوال وخطئها : فهذا الواجب في حقه أن يأخذ بفتوى
من يثق بعلمه وأمانته ودينه من أهل العلم ، سواء كانوا من أهل بلده أو من غيره ،
ولا يضره اختلاف العلماء بعد ذلك ، فلا يجب عليه أن يغير ما يعمل به لأنه سمع عالما
آخر يفتي بخلاف من أفتاه سابقا ، إلا أن يكون ما علِمه بعد ذلك هو الحق بناءً على
ثقته بالمفتي الآخر بدينه وعلمه .
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
" الواجب على مَن علِم بالدليل أن يتبع الدليل ، ولو خالف مَن
خالف من الأئمة ، إذا لم يخالف إجماع الأمة .
ومَن ليس عنده علم : فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله
تعالى : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ) يسأل مَن
يراه أفضل في دينه وعلمه ، لا على سبيل الوجوب ؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه
المسألة المعينة ، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب ، فهو على سبيل الأولوية ،
والأرجح : أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه " .
انتهى باختصار من كتابه " الخلاف بين العلماء " ( ص 15 – 17 ) .
وانظري جواب السؤال رقم (
8294 ) و ( 10645 ) .
ثالثا :
فإن سألت عن قولنا في مسألة غطاء الوجه : فالراجح من أقوال أهل
العلم عندنا هو وجوب ستر الوجه عن الرجال الأجانب ، وقد جاءت بذلك الأدلة الكثيرة
وأقوال جماهير أهل العلم ، ومنهم المالكية ، فقد قال كثير منهم إنَّ المرأة لا يجوز
لها كشف وجهها أمام الرِّجال الأجانب ، لا لكونه عورة ، بل لأنَّ الكشف مظنَّة
الفتنة ، وبعضهم يراه عورة مطلقاً ، لذلك فإنَّ النِّساء - في مذهبهم - ممنوعات من
الخروج سافرات عن وجوههنَّ أمام الرجال الأجانب .
قال الله عز وجل : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) الأحزاب/18 .
قال القاضي أبو بكر بن العربيِّ المالكي – رحمه الله - :
" المرأة كلُّها عورة ، بدنها وصوتها ، فلا يجوز كشف ذلك إلا
لضرورة أو لحاجة ، كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عمَّا يعنّ
ويعرض عندها " انتهى .
" أحكام القرآن " لابن العربي ( 3 / 1578 ، 1579 ) .
وقال القرطبي – رحمه الله – وهو مالكي أيضاً :
" في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء
حجاب في حاجة تعرض ، أو مسألة يستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى ،
وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة : بدنها وصوتها - كما تقدم - فلا
يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عما يعرض
وتعيَّن عندها " انتهى .
في " الجامع لأحكام القرآن " ( 14 / 227 ) .
ولمطالعة مزيد من أقول الفقهاء المالكية في وجوب تغطية المرأة وجهها ، يُنظر : "
المعيار المعرب " للونشريسي ( 10 / 165 و 11 / 226 و 229 ) و " مواهب الجليل "
للحطّاب ( 3 / 141 ) و " الذّخيرة " للقرافي ( 3 / 307 ) و " حاشية الدسوقي على
الشرح الكبير " ( 2 / 55 ) .
وقد سبق في موقعنا ذكر المسألة بأدلتها في أكثر من إجابة ، فانظر
أجوبة الأسئلة : (11774) ، (
12525 ) ، (
13998 ) ، (
21134 ) ، (
21536 ) .
رابعاً :
أما ما ذكرتِ من منع القوانين عندكم من تغطية المرأة وجهها :
فذلك مما يدمَى له القلب ، وتأسف له النفس ، أن يحارب الستر والعفاف ، ويشجع التبرج
والسفور في كل مكان ، وخاصة إذا كان ذلك في بلاد تنتسب للإسلام .
فإذا كانت القوانين تمنع من ستر المرأة ، وخشيتم من الأذى بسبب
لبس غطاء الوجه : فلا حرج عليكم حينئذ من تركه ، على أن يكون ذلك بقدر الضرورة ،
فلا تخرج المرأة من بيتها كاشفة وجهها إلا لحاجة ، وإن استطاعت أن تخالف القوانين
وتحتمل الأذى اليسير فلتفعل ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وانظري جواب السؤال رقم (2198)
و (45672) .
والله أعلم .