حين يوغل الناس في البحث عن النوايا رغبة في طعن أو اتهام، أو حين يمتهنون التشقيق عن القلوب تشهّيا في الوقيعة أو الإيقاع: فإن المجتمع حينها يكون قد آثر الهوى على الشرع، و نأى بنفسه عن ظاهر في التعامل ساد، و ينبغي أن يسود، و استبدل الأدنى بالذي هو خير، لا ننكر أن خلف هذا المسلك حرقة تدفع ابتداء، لدى أناس لا يرقى الشك إلى صدقهم، لكن الأمر ينحدر شيئا فشيئا إلى مزاج يستحكم، وبخاصة في فترات النكوص و التولي عن بيّنات الشرع، إلى أوهامِ و أهواءِ "عامة" يتصدّرون الصفوف من خلال التسلّل، أو يتدثّرون بالشعار من دون تحقّق.
أخرج البخاري في صحيحه(6/152)عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذّبني، فأصابني همّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل { إذا جاءك المنافقون إلى قوله هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله إلى قوله ليخرجن الأعز منها الأذل } فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليّ ثم قال إن الله قد صدقك."
و في رواية الترمذي عن الحكم بن عيينة قال:" سمعت محمد بن كعب القرظي منذ أربعين سنة يحدث عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن عبد الله بن أبيّ قال في غزوة تبوك:{لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} قال: فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فحلف ما قاله، فلامني قومي، وقالوا: ما أردت إلا هذه؟ فأتيت البيت ونمت كئيبا حزينا، فأتاني النبي صلى الله عليه و سلم أو أتيته فقال: إن الله قد صدقك قال فنزلت هذه الآية {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} (سنن الترمذي 5/ 417)
ما أسرع أن يستجيب الناس لمستصرخ يلوذ بعقيدة يرى أنها تُنتهك، أو يستنهضُ الهمم لنصرة أقوام يجمعه بهم انتماء، في مواجهة مَن يصفه بارتداد أو خيانة أو نفاق، و قد شاع في الناس دهرا تنابز بالتكفير القومي و الديني، من غير تحسب لعواقب، أو تقدير لمآل، أفضى بالناس إلى تدابر و قطيعة مهّدت لفتن، أو تُذُرّع بها لانتهاك حرمة أو سفك دم أو استحلال مال بغير حق.
من يأبى أن يقتل "مواطنا" لمجرد قول يصدر عنه، تُشتمّ منه رائحة شماتة، أو يوحي بالدعوة لفتنة-كما مرّ مع رغبة عمر في قتل ابن أبيّ المنافق الذي جمع إلى نفاقه إرجافا لا ريب فيه غداة الهزيمة في أحد-: لا يبعد عليه أن يُصدِّق منافقا في دعواه، لأنه في هذه و في تلك كان يصدر عن منهج تترسّخ مع الأيام خطواته، و ينبئ عن مسلك يخضع بدوره لاقتداء و تسنّن، يقصره الكسالى على تعبّد، و يريده ذوو الهمم العالية هديا بالغَ المعمورة صداه، و تستجيب له القلوب المنهكة.
العبرة من هذه الواقعة أن الرسول الله عليه و سلم أبى أن يحتكم إلى مجرد الثقة أو الولاء، فيصدّقَ أتباعه المخلصين في كل ما يدّعون، و يكذب من حامت حولهم الخيانة و النفاق في كل ما يُظهرون، و قد كان منطق الكثيرين اليوم أن ينحازوا إلى صفوف الموالين دوما، و لو أخطأوا أو كذبوا، و أن يُكذِّبوا أو يتهموا المخالف أبدا، و لو أصاب أو صدق، لكن منطق النبوة يختلف، و هدي الإسلام ينسف ما درج عليه الناس، حتى و لو تعارفوا عليه أو تعاملوا به زمنا، فالناس في ظل مجتمع الإسلام سواءٌ، فيما يعلنون أو يُظهرون، و التعامل معهم لا يتمّ بالانتقاء حسب المزاج أو الهوى، و الحاكم و القاضي و المفتي لا يحكمون بعلمهم، فضلا عن أن يحكموا بالغيوب، و المقام لا يخوِّل لأحد أن يجتاز الحدود أو المسلمات، إذا كان الرسول نفسه لا يبيح لنفسه التجاوز أو التعدّي، و خبر السماء الذي جاء لاحقا بالقول الفصل في هذه الواقعة قد انقطع، فما هي مستمسكات من يخالفون الهدي النبوي، و ما هي حجج مَن تسيِّرهم أهواؤهم إلى هذه الوجهة أو تلك، من صنيع لا يمتّ بأدنى صلة إلى السنة، إلا أن تكون "سنةً" لأقوام لا وشيجة تجمعهم بحقيقة هذا الدين.
و قد ذهب الحافظ ابن حجر-في سياق استخراجه للفوائد-أبعد من مجرد تصديق الحالف و إجراء أمره على الظاهر حين قال:" و فيه تصديق أيمانهم، وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك، لما في ذلك من التأنيس والتأليف.."و أضاف ملمحا آخر حين لم ينظر إلى ملحظ النفاق في ابن أبيّ، و إنما استحضر زعامته في قومه، و عدم المساس بهيبته فيهم، و ذلك في قوله:" وفي الحديث من الفوائد تركُ مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصارُ على معاتباتهم وقبولُ أعذارهم وتصديقُ أيمانهم ... وفيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يعد نميمة مذمومة إلا إن قُصد بذلك الإفسادُ المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة ترجح على المفسدة فلا.."
و ثمّة أمر آخر لا يلتفت إليه عادة مَن يُجرون أمورهم على الولاء، و يُجرونه أبدا على التفصيل والتحقيق، و هو أن النبي صلى الله عليه و سلم حين أبلغه الصحابي بما يُرجف به المنافقون في المدينة بعث في طلب عبد الله بن أبيّ ليسمع إفادته أو ردّه على ما ادُّعي عليه، و ذلك يعني أن النبي لم يكتفي بما أخبره به عمّ زيد بن أرقم، أو زيد بن أرقم نفسه كما في إحدى الروايات، و قد كان المظنون أو المتوقع أن يصدِّق النبي أصحابه، إذ يُخبرونه بأمر مُشين ينسبونه إلى مًن كان معروفا-عند النبي على الأقل- بالنفاق و الإرجاف، و أن يكذِّب في المقابل نفيهم ولو شفعوه بالأيمان المغلّظة، و لكن المفاجأة أنه أخلف ظن الصحابي عندما لم يعاتب أو يعاقب عبد الله بن أبيّ على أقواله، و النبي صلى الله عليه و سلم لا يبدو أنه كذّب الصحابي صراحة، و لكنه فَهمُ زيد بن أرقم، ما دام النبي صدّق ابن أبي، أو أجرى أمره على ظاهر ما أعلنه و أقسم عليه، فحَمَل ابن أرقم صنيع النبي على أنه تكذيب له، و إنما هو إرشاد للمسلمين في كل زمان و مكان حول ما ينبغي عمله في مثل هذه الأحوال، و النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ موقف الحاكم الذي يستند إلى ظواهر الأحوال، و هو يعلم أن الوحي سيفصل في الأمر، ومعنى ذلك أن الموقف الذي اختاره بصفته حاكما هو المعتمد لمن بعده من الحكام، بعد أن توقف الوحي، و لم يعد ممكنا الحسم إلا عن طريق اجتهاد يستعين به أهل الحل و العقد، و يتوسلون به للفصل في القضايا العالقة