}لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ{(البقرة: 176).
من خلال هذا النص الكريم من كتاب الله، نرى المحورين اللذين تشملهما الآية المنزلة، وهما: التصور الإيماني الصحيح الذي تنبثق منه الأقوال والأفعال التي تصدر من المسلم والمسلمة من إعلان الشهادة، إلى لقاء الله، عز وجل، يوم الدين، فلا يرتضي الله من الإنسان قولا وعملا مناقضا لهذه العقيدة التي هي : الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، ولا يرضى الله عن أي نهج لا يقوم على هذا المرتكز. ولابد إذن أن تبنى الحياة في كل مجالاتها على هذه العقيدة التي نزل بها وحي الله إلى أرض الله، على لسان رسل الله، من آدم إلى محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
ولنحاول فيما يلي أن نقتبس من هذه النقط المضيئة ما نهتدي به إن شاء الله.
إن البر هو الخير والإحسان، وكل ما يجلب الطمأنينة والرضا والشعور براحة القلب والضمير، أما القول بأن البر ليس في التوجه شرقا أو غربا، فلذلك سبب مذكور في التفاسير التي وصلتنا، وهي تتفق على أن المناسبة هي تحويل القبلة من المسجد الأقصى بالقدس، إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة، وكانت آية التحويل قد أثارت ردود فعل في كل من اليهود والنصارى وقريش، وفي ذلك قوله تعالى:}سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{(البقرة: 142).
المفهوم السليم للتوجيه القرآني
في الآية ردٌّ على الذين لم يفهموا مقاصد المنهج الإلهي هذا من حقه، ومن جهة ثانية وضع خط سليم للمجتمع الرباني نحو الغاية التي أراد الله أن تتحقق به في الأرض، حين يستقيمون على الطريقة التي ارتضاها الله لهم، وتحديد الوجهة السليمة التي عليهم أن يتمسكوا بها، وذلك بإبراز شخصيتهم المستقلة التي باركها الله، وهي الشخصية الإسلامية الربانية:}وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{(آل عمران: 79).
وهكذا برزت إلى العالم أمّة متفردة قد تخلصت من كل الشوائب التي علقت بغيرها من الجاهليات، فكانت ربانية لا شرقية ولا غربية.
نظرة في مفهوم الشرق والغرب
تدبرت في هذه العبارة من الآية الكريمة فهداني ربي إلى أن من إعجاز القرآن الكريم ذكر المشرق والمغرب، وأرى أن الغرض من هذا التحويل هو ترويض المسلمين على طاعة الله في كل شأن.
إذ الشرع ليس في الأشكال والمظاهر التي تطفو على السطح، في حركات الشعائر، وإنما فيما تحدثه من الأثر الإيجابي في سلوك ومعاملة الأفراد والجماعات يدعم ما قلته عبارة أدق وأشمل في فهم التوجيه القرآني أسلوبا وموضوعًا وهدفًا، هذه العبارة جاءت على لسان إمام البيان العربي، والفهم القرآني، والعقل القضائي، سيدنا أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرمه الله وأعلى مقامه وأرضاه وخلاصته:
" اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادّة" وهكذا أراد الله أمة الإسلام وسطا بين اليمين والشمال، والشرق والغرب، أرادها الله إمامًا يتقدم الصفوف وتأتم به الشعوب، وليس ذيلا تابعا للطغاة يسوقونه حيث شاؤوا كما هو الحال الآن والعياذ بالله؟؟
لقد كان أسلافنا أساتذة الدنيا حين استقاموا على الطريقة. ولما أعرضوا عن ذكر ربهم صارت حياتهم كما قال ربنا (عذابًا صَعَدًا).
وقائع..أضافت جديدا
عندما ننظر إلى ما حدث في عصرنا، وما تراكم فيه من أيام حالكات السواد، فإننا نسجل وقوع أحداث مزلزلة تتكرر في ساحتنا مشرقًا ومغربًا وذلك بعد مرور فترة من الزمن أعقبها الاحتلال الصليبي لأرض الإسلام انطلاقا من ضياع حضارة الإسلام وعزة المسلمين بالأندلس.
فجاءت الطامة الكبرى في هذه العاجلة قبل الآجلة، وتجسدت في زلزال الأرض المقدسة، عندما وصلت يهود إلى اقتحام القدس بكاملها، وتدنيس المسجد الأقصى المبارك، مسرى ومعراج رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فك الله أسرى المسجد المبارك، وأيقظ في المسلمين عزة الأسلاف الخالدين، لغسل العار، وكسب الانتصار بقدرة الواحد القهار إن شاء الله.
الشيء بالشيء يذكر
في يونيو اليوم الخامس من سنة 67 م أذيع النبأ المفجع المقرع على أسماع الدنيا بأن جحافل يهود اقتحمت القدس عندها كنت ألقي درسي الأسبوعي بنادي الترقي بالعاصمة، فكان الدرس " ويا للاتفاق" في قوله عز وجل:}قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ{(البقرة: 144).
وكما ذكرت، اتفق ذلك مع اليوم المشؤوم مما حدث في أرض الأقداس. كان أمامي وأنا أقف مع الآية السابقة الذكر ما ذكره المفسرون عن أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يشعر بالقلق وهو يتطلع إلى السماء ويرجو ويدعو الله أن يحوله إلى المسجد الحرام في صلاته، وهي القبلة التي يرضاها وها أن الله عز وجل قد استجاب له، فأمر بتحويله إلى الجهة المرضية وأمر المسلمين أينما كانوا أن يولوا وجوههم إليه، وهذا صريح في قوله تعالى:}قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا{.
c
فتراض محتمل
نعم؛ لقد خطر في بالي هذا الاحتمال وهو شيء لا وجود له في التفاسير، لأنه لم يحدث بعد، غير أن القرآن هو كتاب الله الأبدي؛ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. كما صح عن رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم- أي أنه كتاب للماضي والحاضر والآتي، فهو مجال للتدبر دائما. ألا يجوز أن يكون رسول الله قد علم شيئا مما سيحدث بعد أربعة عشر قرنا.فكان سبب قلقه.
لقد سبق لي أن ذكرت ذلك في المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، فلم يعترض عليّ أحد في إمكان أن يكون هذا الاحتمال وهو مما لا يمكن تأكيده وإثباته أو نفيه، غير أن الله عز وجل جعل الأيام متداولة بين الناس، فهي تتقلب من حال إلى حال وإلى الله المآل.